كى تتم عملية الإنتاج لابد وأن تتوافر عناصر الإنتاج اللازمة لذلك،
ولابد أيضا أن تتآلف تلك العناصر بنسب فنية محددة. وقد حدد الكلاسيك عناصر
الإنتاج Factors
of Production بالأرض
والعمل ورأس المال. ثم اعتبر كارل ماركس عناصر الإنتاج اثنين فقط هما العمل
والطبيعة بما فيها الأرض حيث تستخدم قوة العمل الإنساني (أدوات العمل) المستمدة من
الطبيعة والتي توصلت إليها الخبرة الإنسانية، في (موضوع العمل) وهي الأرض ذاتها أو
بعد تطويرها بغرض الحصول على الناتج
النهائي، وهو بذلك يستبعد عنصر رأس المال
باعتباره عمل متراكم عبر الزمن أطلق عليه (العمل الميت). أما النيو كلاسيك
وعلى يد الفريد مارشال فقاموا بالتمييز بين نوعين من العمل هما العمل
المباشر(العمال والموظفون) والعمل غير المباشر(المديرون وأصحاب العمل) ويطلق عليه
المنظم أو الإدارة. وعلى ذلك تصبح عناصر الإنتاج أربعة عناصر هي:
الأرض والعمل
ورأس المال والإدارة. وبعد أزمة الكساد الكبير، وانتشار أفكار اللورد كينز
التي أعادت للحكومات دورها المفقود في إدارة الاقتصاد والتدخل بالإنفاق الحكومي
أشار البعض بضرورة إضافة الحكومة كعنصر خامس من عناصر الإنتاج حيث لا يتصور أن تتم
عملية الإنتاج في غيبة الحكومة التي تقوم بالتنظيم العام للمجتمع، وتحصل على
الضرائب كأحد عوائدها الرئيسية. ومن أنصار تلك النظرة رواد المدرسة النقودية
أمثال ألفريد فريدمان التي ترى
إمكانية إدارة الاقتصاد القومي من خلال السياسات المالية والتحكم في الإصدار
النقدي وأسعار الفائدة.
رغم التباين في وجهات النظر الخاصة بتحديد عناصر الإنتاج تلك
فإنه يلزم التأكيد على أن عملية الإنتاج في التعبير الرياضي هي دالة لتلك العناصر
المُختلف حول أهميتها وعددها. فدالة الإنتاج Production Function هي تعبير عن إمكانية إنتاج حجم مُعّين من(السلع
والخدمات) باستخدام حجم مُعّين من (عناصر الإنتاج)، عند مستوى تكنولوجي محدد سلفا.
ويُصبح السؤال الآن: ما هو شكل العلاقة بين تلك المتغيرات المستقلة (عناصر الإنتاج)،
وبين المتغير التابع (الناتج) ؟. حول هذا الموضوع قام الاقتصاديون الأوائل، أي
الكلاسيك بمحاولة الإجابة عليه، لتتبلور الإجابة
فيما عُرف بقانون تناقص الغِلة، أو قانون العوائد المتناقصة Low of Diminishing Returns. كما يُطلق
عليه أحيانا قانون التكاليف المتزايدة Low of
Increasing Costs.
المفهوم
الفيزيقي لتناقص الغِلة:
ينص القانون على أنه "باستعمال
وحدات متتالية متساوية من عناصر الإنتاج على قطعة محددة من الأرض، فان الناتج
النهائي يتزايد في أول الأمر حتى يصل إلى مرحلة معينة يأخذ في
التناقص بعدها". والقانون بهذا الشكل يُعبر عن علاقة فنية فيزيقية تم
التوصل إليها من خلال العديد من المشاهدات خاصة في مجال الإنتاج الزراعي
رغم أن المحاولات الأولى لصياغة القانون تمت عبر عدد من البديهيات التي
صيغَت في ذلك الوقت، على نحو: إذا لم تكن
هذه العلاقة صحيحة فلماذا نحتفظ بكل هذا القطيع، أليس من الأفضل الاكتفاء
بعدد أقل طالما أن وزن الماشية في علاقة طر دية مع كمية الغذاء المُقدمَة لها.
ونفس الشيء بالنسبة لمحاصيل الحقل فبدلا من بعثَرت الجهد على مساحة واسعة من الأرض
يُمكن أن نُضاعف مستلزمات الإنتاج على نفس قطعة الأرض فنحصل على ناتج متزايد
باستمرار.... وهذا.
يُعبّر الناتج الحدي Marginal Product عن حجم التغير في الناتج الكلي الناتج عن تغير
عنصر الإنتاج بوحدة واحدة. ويلاحظ أن الناتج الحدي يتزايد بسرعة شديدة حتى يصل
أقصاه. ثم يأخذ في التناقص بعد ذلك حتى يصل إلى الصفر، ويتحول إلى قيم سالبة بعد
ذلك.ويُعبّر الناتج المتوسط Average Product عن النصيب
الذي يخُص وحدة العامل المتغير من الناتج الإجمالي. ويتم حسابه عن طريق قسمة
إجمالي الناتج على عدد وحدات العامل المتغير المُستخدمة. ويُلاحظ أن الناتج
المتوسط يتزايد ببطء ويصل أقصاه. ثم يأخذ في التناقص التدريجي بعد ذلك ولا يصل إلى
الصفر.
مناطق الإنتاج:
يُمكن بدراسة العلاقة بين
مقاييس الإنتاج الثلاثة ملاحظة أن الغِلة الإنتاجية تمر عبر ثلاث مراحل عُرفَت
باسم مناطق الإنتاج. وهي التي توضح بشكل أكثر دقة مفهوم قانون تناقص الغِلة. وذلك
على النحو التالي:
أ- المنطقة
الأولي: وهي المنطقة التي تبدأ ببداية عملية الإنتاج وتنتهي
عندما يتساوى الناتج المتوسط مع الناتج الحدي، وهي أيضاً النقطة التي يكون عندها
الناتج المتوسط في أقصى قيمة له. ويلاحظ في القسم الأول من هذه المنطقة أن الناتج
الكلي يتزايد بمعدل متزايد مع الإضافة المتتابعة لعنصر الإنتاج المتغير، ويستدل
على ذلك أيضا بالصعود السريع للناتج الحدي حتى يصل إلى أقصى قيمة له، وفي القسم
الثاني من المنطقة الأولى يبدأ الناتج الكلي في التزايد بمعدل متناقص، كما يأخذ
الناتج الحدي في الانخفاض. أما الناتج المتوسط فإنه يستمر في التزايد حتى يصل إلى
أقصى قيمة له عند نهاية المنطقة..
ب- المنطقة
الثانية: وهي المنطقة التي تبدأ عند نهاية المنطقة الأولى وتنتهي
عندما يبدأ الناتج الكلي في التناقص، وهي أيضا النقطة التي يصل فيها الناتج الحدي
إلى الصفر. ويلاحظ في هذه المنطقة أن الناتج الكلي يستمر في التزايد بمعدل متناقص،
بينما يأخذ الناتج المتوسط في التناقص، مع استمرار تناقص الناتج الحدي حتى يصل إلى
الصفر بنهاية المنطقة.
ج- المنطقة
الثالثة:
وهى المنطقة التي تبدأ عند
نهاية المنطقة الثانية، وتنتهي بتوقف عملية الإنتاج. وفي هذه المنطقة يأخذ الناتج
الكلي في التناقص المستمر بالزيادة المتتابعة في عنصر الإنتاج المتغير، ويأخذ
الناتج الحدي قيما سالبة، ويستمر الناتج المتوسط في الإنخفاض.
ء- المنطقة
المُثلى للإنتاج:
الأن وبعد أن تعرفنا على
مناطق الإنتاج الثلاث، ماهى المنطقة المُثلى التي يُمكن للمنتج فيها أن يستمر
في للإنتاج ؟. باستعراض الوضع في المناطق
الثلاث نجد أن المُنتج في القسم الأول من المنطقة الأولى يحصل على ناتج
متزايد كلما أضاف وحدات متتابعة من عناصر الإنتاج، وعلى ذلك يُصبح من غير المنطقي
أن لا يستفيد المُنتج من هذه المرحلة وعليه أن يتجاوزها بسرعة شديدة ليدخل في
القسم الثاني حيث يستمر التزايد في الناتج الكلي بمعدل متناقص، ولكن طالما ظل
الناتج الحدي أكبر من الناتج المتوسط يُصبح من الأفضل للمنتج أن يستمر في الإنتاج.
وفي المنطقة الثالثة نلاحظ أن المُنتج يحصل على ناتج متناقص كلما أضاف
وحدات من عناصر الإنتاج، ومن هنا يُصبح من غير المنطقي أيضا أن يدخل المُنتج هذه
المرحلة. فإذا كان من غير المنطقي أن يستمر المنتج في المنطقة الأولى، ومن غير
المنطقي أن يدخل أيضا المنطقة الثالثة، فلن يتبقى لدينا سوى المنطقة الثانية
لتُصبح هي المنطقة المُثلى للإنتاج حيث يتزايد الناتج الكلي بمعدل متناقص ويكون
فيها الناتج المتوسط أكبر من الناتج الحدي.
المفهوم
الاقتصادي لتناقص الغِلة:
تمكنا في القسم السابق من
تحديد المنطقة المُثلى للإنتاج استنادا إلى المفهوم الفيزيقي لقانون تناقص الغِلة،
لكن ما هي النقطة المُثلى داخل هذه المنطقة التي تتم عندها عملية الإنتاج ؟. في
الواقع إن المفهوم الفيزيقي لتناقص الغِلة لا يمدنا بالأدوات الكافية للإجابة على
مثل هذا السؤال، حيث يسعى المُنتج للحصول على أقصى ربح، وليس بالضرورة على أقصى
إنتاج ممكن. ومن هنا كان لابد من إدخال عناصر تكاليف العملية الإنتاجية، وعناصر
عائد بيع الناتج الكلي وهو ما يتضمنه المفهوم الاقتصادي لتناقص الغِلة. النقطة
المُثلى للإنتاج وفقا للمفهوم الاقتصادي لتناقص الغِلة هي النقطة التي يتساوى عندها
الإيراد الحدي مع التكاليف الحدية، وتقع داخل المنطقة المُثلى للإنتاج وهي المنطقة
الثانية.
تكثيف استخدام الأرض:
يُقصد بتكثيف استخدام الأرض
الزراعية العلاقة الموردية بين مختلف عناصر الإنتاج على قطعة الأرض. ونظراً لأننا
نستبعد هنا استخدام الأرض في غير نشاط الإنتاج الزراعي، فإن مسألة التكثيف تكون
أكثر تحديدا. وعلى ذلك يكون الاستخدام المُكثف للأرض الزراعية Intensive Use هو ذلك الذي
يتم بتوليفة عالية من (العمل ورأس المال) على وحدة مساحة الأرض، وهو ما يحدث غالبا
في البلدان محدودة المساحة. أما الاستخدام غير المُكثف للأرض الزراعية Extensive Use فهو ذلك
الذي يتم بتوليفة منخفضة من (العمل ورأس المال) على وحدة مساحة الأرض، وهو ما يحدث
غالبا في البلدان متسعة المساحة. أما إذا أدخلنا الاستخدامات غير الزراعية فإن
الأمر سيختلف بلا شك، حيث يدخل في الاعتبار تغير ثمن الأرض بتغير طبيعة النشاط
الاقتصادي القائم عليها. وتعود في وقتنا الحالي من جديد قضية تكثيف استخدام الأرض،
مع زيادة التنافس بين الاستخدامات المختلفة (كالتنافس بين الاستخدام السكني
والاستخدام الزراعي في الأراضي القديمة في مصر).
آراء حول القانون: أثار قانون
تناقص الغِلة جدلاً واسعا بين علماء الاقتصاد والاجتماع بين مؤيدين متشددين،
ومعارضين متشددين. كما أحدث قدرا كبيرا من الاضطراب، حتى تحول بعض العلماء من جانب
لآخر. ونحاول بشكل موجز إلقاء الضوء على هذه الآراء التي لا تزال آثارها باقية إلى
اليوم.
1- آراء الكلاسيك حول
القانون:
رغم ظهور قانون تناقص
الغِلة في إطار الفكر الكلاسيكي حيث نشر جيمس ستيوارت كتابه (مبادئ
الاقتصاد السياسي) في عام 1767م، والذي توصل فيه إلى أفكار هامة تجاه بلورة قانون
تناقص الغلة الذي بنى عليه مالتس تحليله بعد ذلك. فقد انقسم هؤلاء بين
مؤيدين للقانون، وهم الأكثرية، وعلى رأسهم بالطبع روبرت مالتس الذي بنى
نظريته في السكان والموارد استنادا إليه،وديفيد ريكاردو الذي بنى نظريته في
الريع استنادا إليه أيضا. ثم جاء جون ستيوارت مل(1806 - 1873م) ليتفق مع ريكاردو
تماما في أن التقدم التكنولوجي سوف يكون محدودا في الزراعة، لذا فإن قانون تناقص
الغِلة يُصبح من المؤكد سريان مفعوله. وهناك من تحولت آراؤهم من التأييد الكامل
إلى التأييد الحذر أمثال جون رمزي ماكولوخ (1789 - 1864م)، الذي تحول من
التشاؤم الشديد في 1825م حيث لم يكن يرى أية بارقة للأمل في تطور الآلات
والتحسينات الفنية إلى التفاؤل الحذر عام 1843م. واختلف بشدة مع ريكاردو في اقتناعه بأن التحسينات الفنية يمكن
أن تقلل من تأثير قانون تناقص الغلة.
2- آراء النيو كلاسيك
حول القانون:
تباينت أراء النيو كلاسيك
من التأييد المطلق إلى التأييد الحذر، ثم إلى الهجوم الشديد. ويأتي التأييد المطلق
من جون إليوت كيرنس (1823 - 1875م)، حيث قال عندما تعرض للقانون " أنه حينما يحدث نمو في عدد السكان
يتزايد الطلب على الموارد الغذائية، فترتفع تكاليف الإنتاج، ويُمكن مواجهة هذا
الارتفاع من خلال التقدم الفني. إلا أنه مهما كان فعل هذا التقدم فإنه من المشكوك
فيه أن يُجاري دائما النمو السكاني بلا نهاية ". ويقول الفريد مارشال (1842
- 1928م) أن التحسينات الفنية في الزراعة بالتعاون مع عنصري العمل ورأس المال يمكن
أن تؤدي إلى زيادة حجم الغلة الزراعية. بيد أن هذا الوضع يصعب تحقيقه في الدول
القديمة التي وصلت إلى درجة عالية من النضج الاقتصادي، فكل زيادة في رأس المال
والعمل من الصعب أن يتمخض عنها زيادة متناسبة في حجم الإنتاج. والأسلوب الوحيد
لمواجهة زيادة السكان هو اكتشاف مزيد من الأراضي القابلة للزراعة، ومد طرق
المواصلات. كم أن الحد من أثر هذا القانون يأتي عن طريق توسيع المستعمرات في
العالم الخارجي. أما التأييد الحذر فيأتي من يوهان
فون ثونن (1826 - 1863م) الذي استخلص مفهوم التحليل الحدي بشكل منطقي من قانون
تناقص الغلة، حيث يؤدي التفاوت في خصوبة التربة أو التفاوت في موقعها إلى ظهور الريع إذا ما قورنت بالأرض الحدية،
وان زيادة عدد السكان يؤدى إلى تحريك حد الأراضي الحدية، فتدخل أراضي أقل خصوبة في
الزراعة مما يُزيد من ريع الأراضي المنزرعة سابقا ً. كما أن الأجور تتحدد وفقا
للإنتاجية الحدية لعنصر العمل. أما المعارضون الأشداء للقانون من النيو كلاسيك،
فيظهر ريتشارد جونز (1790 - 1855م) ليقول بأن زيادة الريع في بريطانيا
واضطرار المزارعين إلى زراعة أراضي أقل خصوبة
لا تعود إلى زيادة عدد السكان، بل تعود إلى التحسن الذي طرأ على بعض
المزارع وارتفاع إنتاجيتها دون المزارع الأخرى. وأن قانون تناقص الغلة ليست له صفة
أبدية، ذلك لأن زيادة معارف الإنسان وتطويره للتكنولوجيا واستحداثه لأدوات جديدة
يمكن أن يخفف من حدة مفعوله. كذلك فعل الفرنسي
هنري كارييه (1739 - 1879م) حيث رفض قانون تناقص الغلة، ورأى أن
السكان لم يقوموا بزراعة أجود الأراضي، وإنما قاموا بزراعة أسهلها في الزراعة من
حيث طرق الوصول إليها ومدى انبساطها، وهي اعتبارات لا علاقة لها بالخصوبة، ولكن مع
التقد ينتقل الإنسان من الأراضي الفقيرة إلى الأراضي الأكثر خصوبة. بل أن زيادة
السكان وتحقيق تقدم فني في الزراعة هو الذي سيدفع السكان إلى زراعة مزيد من
الأراضي الخصبة(لأنهم بدءوا بزراعة الأراضي الأسهل، وليس الأكثر خصوبة) ونتيجة
لذلك فإن الإنتاج الزراعي يخضع لقانون الغلة المتزايدة مع تزايد أعداد السكان.
فزيادة عدد السكان وزيادة زراعة الأراضي الخصبة يكونان مصحوبين بنمو سريع في تراكم
رأس المال. وبالتالي تميل نسبة رأس المال إلى عدد السكان نحو الارتفاع. كما أن هنري
جورج (1839 - 1897م) كان يرى أن الزيادة السكانية تؤدى إلى زيادة حجم الناتج
بنسبة أكبر من نسبة زيادة عنصر العمل، وهو ما يعني رفضه لقانون تناقص الغلة.
الغريب في االموضوع أنه يتم
تدريس قانون تنتاقص الغِلة في الجامعات المصرية حتى الآن كقضية مُسلَم بها خالية
من النظرة النقدية، مما يُساهم في مزيد من الإنغلاق على فكر الطلاب رغم تجاوز هذا
الموضوع فى الجامعات الأجنبية منذ أكثر من قؤنين من الزمان. كما يُلاحظ استخدام
كلمة "مرحلة الإنتاج" بدلاً من كلمة "منطقة الإنتاج" مما
يُعطى إنطباع بضرورة المرور عبر هذه المراحل وهو أمر خطأ كما رأينا لذا فإنه من
الأفضل استخدام كلمة منطقة بدلاً ممن كلمة مرحلة شائعة الاستخدام.
دكتور/
محمد مدحت مصطفى
أستاذ الاقتصاد االزراعي بجامعة المنوفية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق