الثلاثاء، 23 فبراير 2016

تفكيك أستاذ الجامعة ... المقال الذي لم ينشر




تفكيك أستاذ الجامعة

لا شك أن الجامعة كمؤسسة تحظى بقيمة اجتماعية كبيرة، وإذا تساءلنا عن مصدر هذه القيمة نُسارع بسرد جميع الوظائف التي تقوم بها وعلى رأسها البحث والتعليم، ولن أضيف كثيراً على ما كُتب عن مظاهر انهيار هذه الوظيفة، ولا أود أن أكتُب مقالة أدبية رفيعة عن أهمية ودور الجامعات فهذه موضوعات لا خلاف عليها. 

لكن أود أن أشير إلى نقاط أعتقد أنها لم تأخذ حظها الكافي من النقاش رغم أهميتها الكبيرة، وأولى هذه النقاط ما أُطلق عليه تفكيك أستاذ الجامعة. فالجامعات لم تكتسب قيمتها واحترامها في جميع بلدان العالم من الجمع الحسابي لوظائفها التي تقوم بها، إنما اكتسبت هذه القيمة من خصوصية الأساتذة العاملين بها، وهذه الخصوصية تتمثل أساساً في أن أستاذ الجامعة "مُركب مُعقد" ونقصد بهذا المُصطلح أنه نتاج عناصر عديدة "علمية واجتماعية وثقافية وسياسية ……… وغيرها" تداخلت معاً لتُنتج هذا المُركب الجديد الذي هو بالحتم ليس "مجموع حسابي" لهذه العناصر إنما هو "مجموع متضاعف" لها، ومن ثم فإن تأثير الناتج الجديد فيما حوله إنما هو أيضاً "تأثير متضاعف" سواء كان سلباً أم إيجاباً. فإذا ما قمنا بتفكيك هذا المُركب الجديد وأعدنا جمعه بطريقة حسابية لأصبحنا أمام ناتج مُختلف وكائن مُختلف تماماً عن "أستاذ الجامعة" ذلك المُركب المُعقد الذي أشرنا إليه. والكارثة أن هذا هو ما حدث تماماُ مع أساتذة الجامعات في مصر حيث تم تفكيكهم وأعيد تجمعهم حسابياً، وعملية التفكيك وإعادة التجميع تلك لم تتم ذاتياً، وإنما تمت بفعل فاعل، وهذا الفاعل هنا هو السياسات التي تعاملت بها الحكومات المتعاقبة مع مشاكل أساتذة الجامعات منذ أكثر من عشرون عاماً، وذلك على النحو التالي:

يتمثل المظهر العام لقيمة الأستاذ الجامعي في "حجم عطائه"، فكلما زاد حجم العطاء زادت قيمة الأستاذية. والفرق بين حجم العطاء هنا وحجم العطاء في المدارس التعليمية في مرحلة ما قبل التعليم الجامعي أن الأستاذ الجامعي مسئول عن "نقل وتطوير المعرفة العلمية" بمعنى أنه يُقدم لطلابه أحدث المعارف العلمية ويُدربهم على كيفية تطويرها. أما الأستاذ في التعليم المدرسي فإنه يقوم فقط بنقل المعارف العِلمية من الكتب المدرسية المُقررة. أما عملية تطويرها فتقع على عاتق آخرون، وعندما ينتهون منها يقومون بتعميمها على باقي المدارس. ومن هنا نرى جسامة العبء المُلقى على عاتق الأستاذ الجامعي، وفي نفس الوقت الثقة الكبيرة التي منحها المجتمع له. لذلك تقوم المجتمعات بترتيب عوائد مادية خاصة تُمكن هؤلاء الأساتذة من القيام بمهامهم، ومن ثم كان لهم قانون خاص يحكم معاملاتهم.

والمشكلة بدأت عندما زادت أعباء الحياة على أساتذة الجامعات مثلهم في ذلك مثل باقي أفراد المجتمع، وطالب أساتذة الجامعات برفع رواتبهم حيث لجأت الحكومة إلى سياسة "التفكيك"، و"الحساب بالقطعة" بدلاً من رفع أساسي المُرتب الذي كان يُعبر عن مُجمل المهام التي يقوم بها الأستاذ، وذلك حتى لا تخضع هذه الزيادات لاستقطاعات المعاش في المستقبل مما يُشكل عبئاً مستقبلياً على الحكومة.

يا سيدي الفاضل كان أستاذ الجامعة يتقاضى مرتباُ عن مُجمل مهامه الوظيفية المُتمثلة في ( التدريس في قاعة المحاضرات – استقبال الطلاب في مكتبه للإجابة على تساؤلاتهم -وضع الامتحانات – تصحيح كراسات الإجابة – أعمال الملاحظة في الامتحانات – أعمال الكنترول – الإشراف على طلاب الدراسات العليا – الاشتراك في لجان الحكم على الرسائل – الاشتراك في اللجان العلمية – الاشتراك في مجالس الأقسام واللجان المنبثقة عن مجالس الكليات ) وغيرها من المهام، ولم يكن أعضاء هيئة التدريس يتقاضون مكافآت خاصة نظير القيام بهذه المهام لأنها جزء أساسي من مهام وظيفتهم. وكانت الأقسام العلمية المختصة تقوم بتوزيع هذه المهام على أعضائها، ولم يكن هناك صراع على هذه الأعباء بل قد يكون العكس هو الصحيح. ولكي ترفع الحكومة دخل أعضاء هيئة التدريس دون أن تُتهم بزيادة رواتبهم لجأت إلى أسلوب التفكيك التدريجي حتى أصبحت هناك مكافآت مالية عن كل مهمة من هذه المهام:
-
مكافآت عن أعمال ملاحظة الامتحانات.
- مكافآت عن أعمال الكنترول.
- مكافآت عن الاشتراك في أعمال المجالس واللجان.
- مكافآت عن الاشتراك في الإشراف على الرسائل العلمية.
- مكافآت عن الاشتراك في لجان الفحص ومناقشة الرسائل العلمية.
- مكافآت عن تصحيح الامتحانات.
- مكافآت تحت مُسمى "الأجر الإضافي" هو ليس كذلك.

كانت تلك بداية التخريب يا سيدي الفاضل حيث بدأ الصراع بين الأساتذة تحت وطأة الظروف المعيشية السيئة بغرض زيادة دخولهم. صراع على توزيع المقررات ذات الأعداد الكبيرة بغرض زيادة دخول التصحيح، صراع على الإشراف العلمي على الرسائل، حتى تزداد المكافآت، صراع على الاشتراك في أعمال الملاحظة والكنترول، صراع على الاشتراك في المجالس واللجان، هكذا تحولت حياة الأساتذة إلى صراع في صراع مع بعضهم البعض. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى اكتسبت الإدارة الجامعية لأول مرة في تاريخها حقوق مادية إزاء أعضاء هيئة التدريس فهي التي تقوم بتشكيل هذه المجالس واللجان والكنترولات، وفي ظل هذا المناخ انحرف عدد كبير من هذه الإدارات فعمداء الكليات يختارون أهل الثقة قبل الخبرة، وإذا لم يرض عنك عميد الكلية فلن تشترك في هذه اللجان، بل وصل الأمر إلى الانحراف في تشكيل مجالس الكليات رغم أن ذلك تحكمه لوائح مُنظمة. وكلما زادت الأعباء والضغوط زاد التفكيك، وزاد معه الانهيار، ومثال ذلك :

-
السماح بزيادة أعداد لجان الإشراف العِلمي إلى ثلاثة أعضاء للماجستير وأربعة أعضاء للدكتوراه بعد أن كان هناك مشرف رئيسي ومُشرف مساعد. ونحن نرى ونسمع العديد من المشاكل التي ترتبت على ذلك أبسطها الاختلاف بين المشرفين، واستخلاص أوراق علمية من هذه الرسائل تُكتب عليها أسماء هؤلاء المشرفين الثلاثة أو الأربعة بالإضافة إلى اسم الطالب ثم نعود ونشكو من أن أستاذا واحدا هو الذي قام بالإشراف العلمي الفعلي بينما وضع الآخرون أسماءهم بحكم القانون. 

-
السماح بزيادة عدد أعضاء لجنة المناقشة إلى أربعة أعضاء بدلاً من ثلاث حيث تم السماح بتمثيل لجنة الإشراف بعضوين بدلاً من عضو واحد، صحيح أن لهما صوتا واحدا ولكن لكل منهم مكافأة مستقلة، وتدريجياُ أصبح الأمر عادياً رغم عدم وجود أية أسباب موضوعية تدعو إلى ذلك سوى زيادة الدخل واقتسام المكافأة.

-
السماح بتشكيل لجان داخل الأقسام العلمية لتتولى إعداد الموضوعات للعرض على مجلس القسم، رغم أن ذلك من الأمور التي كان يقوم بها رئيس القسم ويعاونه فيها أمين المجلس بالإضافة إلى من يكلفه المجلس، وللأسف كان ذلك مقابل 15 جنيه بحد أقصى ثلاث جلسات … أي والله 45 جنيه في السنة. 

-
تعديل لوائح الكليات التي اعتادت على عدم إجراء امتحانات شفهية بحيث تتمكن من إجراء هذه الامتحانات وتقاضي مكافآت عنها. ونحن نرى الآن المشاكل العديدة التي ترتبت على ذلك، والصراع يشتد ويُصبح أكثر شراسة من أجل اصطياد المقررات ذات الأعداد الكبيرة، ومطالبة الأساتذة الذين لم تحصلوا على الحد الأقصى بمشاركة زملائهم في لجان لم يشاركوا فيها تماماً كما حدث في موضوع الأجر الإضافي فالتطوير هنا تطوير من أجل المال وليس تطوير من أجل العِلم.

-
نأتي إلى لجان التصحيح وهي تُمثل أحد أهم مظاهر الفساد حيث تم وضع حد أقصى لهذه المكافأة قدره ألف وخمسمائة جنيه، وهذا الموضوع وإن كان مناسباً لكليات الأعداد الكبيرة إلا أنه مدمراً لكليات الأعداد الصغيرة التي لا يستطيع عضو هيئة التدريس بها أن يتحصل على ربع هذه المكافأة ومن هنا كان لابد من البحث عن وسيلة للحصول على هذه المكافأة فكان ذلك عن طريق زيادة عدد أعضاء لجان التصحيح من عضوان إلى ثلاثة أعضاء لطلبة مرحلة البكالوريوس وأربعة أعضاء لطلبة الدراسات العليا، لأنه إذا انخفض عدد الطلاب عن خمسون طالباً فإن العضو المُصحح يتقاضى مائة جنيه عن المقرر، ومثال ذلك إذا كان هناك طالباً واحداً في مرحلة الدراسات العليا – وهو شيء شائع - تُشكل له لجنة تصحيح من أربعة أفراد يتقاضى كل منهم مائة جنيه نظير الاشتراك في التصحيح أي نظير تصحيح ربع كراسة إجابة، أي أن تصحيح كراسة إجابة واحدة يكلف الدولة 400 جنيه، يا عالم هل هذا معقول ؟ الكارثة الأكبر أن هناك العديد من الأقسام تتميز بصغر أعداد هيئة التدريس بها بالنسبة لأعداد المقررات فتقوم هذه الأقسام بملء فراغات لجان الامتحان لديها بأساتذة من خارج التخصص فتجد أستاذ الأراضي في لجنة تصحيح مادة الإرشاد الزراعي وأستاذ الحشرات في لجنة تصحيح مادة النبات وأستاذ المبيدات في لجنة تصحيح الرياضيات وهكذا يتقاضى هؤلاء جميعاُ مكافآت عن تصحيح أوراق إجابة لم يشاهدوها أصلاً. ومن هنا ينشغل الأساتذة بقضية "اكتبني واكتبك".

-
أما قضية الأجر الإضافي فقد جاءت لتدمر البقية الباقية من إنسانية الأستاذ الجامعي الذي تدفعه الحكومة دفعاً نحو الانحراف ثم تعود وتبكي وتبحث عن أسباب الانحراف. المعروف من مُسمى الأجر الإضافي أنه أجراً لقاء عمل إضافي يقوم به الفرد. وهو أمر موجود في كل بلدان العالم وفي الجامعات المصرية كانت هناك أقسام تتسم بزيادة أعباء التدريس لأساتذتها عن نصابهم القانوني ومن ثم كانوا يتقاضون أجراً إضافياً عن هذه الأعباء، وهناك أقسام يقوم الأستاذ بها بتدريس فعلي قدره أربع ساعات في الفصل الدراسي أي ثمانية ساعات فقط طوال العام الدراسي نظراً لضخامة عدد أعضاء هيئة التدريس بها وهؤلاء كانوا يتقاضون رواتبهم دون أجر إضافي.
ومع مطالبة أعضاء هيئة التدريس بزيادة رواتبهم قرر الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم العالي في ذلك الوقت منح جميع أعضاء هيئة التدريس مكافأة قدرها 200% من أساسي المرتب تحت مُسمى الأجور الإضافية ومن هنا ساوى القرار بين الأساتذة الذين كانوا يتقاضون هذه المكافأة نظير أعباء تدريس فعلي زائد عن النصاب المقرر لهم وبين هؤلاء الذين يقومون بالتدريس لمدة ثمانية ساعات فقط طوال العام الدراسي، ولا شك أن هذا القرار أفاد الغالبية العظمى من أعضاء هيئة التدريس إلا أنه أصاب هؤلاء العاملين الجادين بالإحباط. وعندما اعترضت وزارة المالية على القرار كان الحل هو ابتداع ساعات وهمية تُكتب لجميع أعضاء هيئة التدريس فهناك ساعات مكتبية وساعات إشرافية وساعات للسيمينار حتى يُمكن تجاوز العدد المطلوب للساعات التي يُسمح بعدها بصرف الأجر الإضافي. وأصبح على أستاذ الجامعة التوقيع على أنه قام بأداء هذه الساعات فعلاً، وهذا هو التأثير القاتل الذي يُحطم نفسية وإنسانية الأستاذ الجامعي حيث تُجبره على التزوير في أوراق رسمية يترتب عليها صرف مستحقات مالية وتُسلط عليه بعد ذلك سيف الاتهام.

سيدي الفاضل هذا جزء من جبل الثلج الناتج عن عملية "تفكيك الأستاذ الجامعي"، ومن هنا ونظراً لأن قانون تنظيم الجامعات الجديد لا يزال في مرحلة الدراسة فإنني أناشد السيد الأستاذ الدكتور وزير التعليم العالي والذي يتمتع بشجاعة المواجهة دراسة مدى إمكانية إلغاء جميع بنود المكافآت التي يحصل عليها أساتذة الجامعات وضمها جميعاً إلى المُرتب الأساسي ذلك ليس بهدف الإصلاح المالي لأعضاء هيئة التدريس فقط بل وأيضاً لإعادة "وحدة التكوين" للأستاذ الجامعي كما كانت في عهدها الطاهر الجميل. ومن ثم لا يحصل عضو هيئة التدريس على "مكافأة" نظير القيام بمهام وظيفته بل يحصل على "مرتب" نظير القيام بهذه المهام. فالوضع الحالي بصراحة يعني أن مرتب أستاذ الجامعة ما هو إلا "إعانة اجتماعية" تصرفها له الدولة سواء قام بمهام وظيفته أم لم يقم، وأن مكافأة أستاذ الجامعة هي المقابل الذي يحصل عليه نظير قيامه بهذه المهام.

أ.د محمد مدحت مصطفى
أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة المنوفية
مقال تم إرساله إلى جريدة الأهرام في عام 2001م ولم يتم نشره.

هناك 9 تعليقات:

  1. السلام عليكم
    قرأت هذا المقال بعناية وفي الحقيقة هو مقال رائع ويستحق النشر والإصرار على مناقشته لأن به إيجابيات كثيرة أهمها على الإطلاق إعادة الكرامة من جديد لأستاذ الجامعة وهو ما نفتقده في هذه المرحلة التي وصل فيها الصراع بين الأساتذة إلى درجة اللاخلاقية
    كذلك يكون المرتب سطر واحد فقط بدل الصفحة الكاملة التي لم أفهم منها شيئا ما تسمى مفردات مرتب كلام فارغ
    نحييك ومعك من أجل الصالح العام
    شكرا جزيلا على هذا المقال الممتاز

    ردحذف
  2. تسلم اياديك اخى مدحت .. لااجد مااقوله سوى انه عادى ان يخرج من فكرك مثل هذا الابداع

    ردحذف
  3. صدقت يادكتور محمد
    جزاك الله خيرا

    ردحذف
  4. مقال يوضح الحقيقة المرة ... أكثر من رائع

    ردحذف
    الردود
    1. انجزت فأوجزت استاذنا الفاضل

      حذف
    2. انجزت فأوجزت استاذنا الفاضل

      حذف
  5. المقال بعناية وفي الحقيقة هو مقال رائع ويستحق النشر والإصرار على مناقشته لأن به إيجابيات كثيرة أهمها على الإطلاق إعادة الكرامة من جديد لأستاذ الجامعة وهو ما نفتقده في هذه المرحلة التي وصل فيها الصراع بين الأساتذة إلى درجة اللاخلاقية
    كذلك يكون المرتب سطر واحد فقط بدل الصفحة الكاملة التي لم أفهم منها شيئا ما تسمى مفردات مرتب كلام فارغ
    نحييك ومعك من أجل الصالح العام

    ردحذف
  6. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  7. معالجة هذه الأوضاع الحاطئة يبدأ بتفعيل مفهوم " استقلالية الجامعة " اكاديميا وماليا وإداريا , بشكل خاصة تحرير مؤسسات التعليم العالي من سيطرة وزارة التعليم العالي وترك الأمور لمجالس الجامعات .. منطق الوصاية الحكومية أنتج ذلك الوضع الشائه الذي تحدث عنه المقال ..

    ردحذف