الاثنين، 25 يوليو 2016

مفاهيم النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية





لا يُمكن فهم واستيعاب مفاهيم ونظريات التنمية الاقتصادية دون التعرف على ظاهرة التخلف الاقتصادي من حيث النشأة والتطور. فمفاهيم ونظريات التنمية الاقتصادية إنما قامت أساساً على نفي ظاهرة التخلف. وفي الواقع فإن التخلف الاقتصادي في عالم اليوم ما هو إلا نتيجة طبيعية لحرمان هذه المجتمعات من فائضها الاقتصادي أولاً بأول حيث يتم استنزاف ذلك الفائض وتحويله عن طريق ماصات متعددة الأشكال إلى البلدان الاستعمارية. وبدون الدخول في تفاصيل نشأة ظاهرة التخلف الاقتصادي على المستوى العالمي نستطيع التأكيد على أن وجود الفائض الاقتصادي يُعَد شرطاً ضرورياً لتنمية المجتمع، إلا انه لا يُعَد شرطاً كافياً وذلك للأسباب الثلاث التالية:

- أن قدرا كبيرا من هذا الفائض يتم استنزافه خارجيا بأشكال متعددة، وبذلك يتعين كحد أدنى القضاء على هذا النزيف.
- أن جزء كبير من الفائض الاقتصادي المتبقي في المجتمع يتم تبديده على أيدي الطبقات المُسيطِرة عليه، وبالتالي يتبقى جزء ضئيل للغاية يمكن استخدامه في عملية إعادة الإنتاج. ومن هنا يتعين أيضا للقضاء على مظاهر هذا التبديد.
- أن ذلك الجزء الضئيل المُتبقي والمُستخدم في عملية إعادة الإنتاج يتم استخدامه بشكل غير رشيد على مستوى اختيار النشاط الاقتصادي وعلى مستوى الأداء الاقتصادي. لذلك يتعين أيضا ترشيده عن طريق إعداد خطة شاملة لتنمية المجتمع تضع في اعتبارها تلبية الحاجات الأساسية للغالبية العظمى من أفراد المجتمع، والحفاظ على مستوى تجديد الموارد البشرية مع الإدارة الاقتصادية الرشيدة للوحدات الإنتاجية  والخدمية.

يؤكد علماء الأنثروبولوجي على أن جميع المجتمعات الإنسانية تمكنت من تحقيق فائض غذائي منتظم "الإنتاج يفيض عن حاجة الاستهلاك" منذ أن عرفت تلك المجتمعات الزراعة وتخطت مرحلتها البدائية. وعن طريق استخدام ذلك الفائض في عمليات إعادة الإنتاج تمكنت المجتمعات الإنسانية من تحقيق التطور والنمو "حيث أمكن تقسيم العمل وتخصيص قسم من الوقت لتطوير أدوات وفن الإنتاج المستخدم". إلا أن ظهور هذا الفائض صاحبه ظهور الصراع بين المجتمعات الإنسانية وبعضها البعض بغرض السيطرة عليه. كما نشأ أيضاً الصراع داخل المجتمع الواحد حيث سيطر بعض أفراد المجتمع على ذلك الفائض وحُرِم منه باقي الأفراد. وقد أخذ هذا الصراع أشكالاً متعددة خلال مراحل التطور التاريخي للمجتمعات الإنسانية، وبشكل عام يُمكن القول أن الاستقرار النسبي الذي تتمتع به المجتمعات ما هو إلا محصلة لصراع القوى داخل هذه المجتمعات، كما أن حالة الاستقرار النسبي بين المجتمعات وبعضها البعض على المستوى الدولي ما هو إلا محصلة لصراع القوى على المستوى العالمي لحظة الاستقرار تلك.

أولا: مفاهيم التخلف الاقتصادي:
كان لنشأة علم التنمية الاقتصادية كـأحد فروع علم الاقتصاد السياسي في بلدان أوربا الغربية أثناء فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي آثار عديدة على مسار تفسير ظاهرة التخلف الاقتصادي، حيث استند ذلك التفسير أساساً إلى عناصر نظرية عوامل الإنتاج. فإذا كان الإنتاج محصلة للعوامل الأربعة  الأرض العمل رأس المال التنظيم  فلابد وأن يكون سبب التخلف هو فقدان أو ضعف واحد أو أكثر من هذه العوامل الأربعة، وهي بذلك تحصر التخلف في كونه قصور في العملية الفنية للإنتاج يسهل علاجها. إلا أن هناك بعض التفسيرات التي ظهرت في مرحلة تالية ترى ضرورة البحث في أسباب نشأة هذه الظاهرة من واقع تطورها التاريخي للوقوف على اللحظة التاريخية التي فقدت فيها تلك المجتمعات قدرتها على تجديد عناصر إنتاجها، وهي في ذلك تأخذ في الاعتبار بعدين هامين هما: طبيعة العلاقات الدولية التي أفرزت تلك الظاهرة، وطبيعة الدولة داخل البلدان المتخلفة والتي كرست هذه الظاهرة. ثم تأتي بعد ذلك المسألة الفنية الخاصة ببحث أسباب القصور في عناصر العملية الإنتاجية. وعلى ذلك نجد أن كافة التفسيرات التي ظهرت للتخلف في إطار الدول الرأسمالية المتقدمة لم تلبث أن انهارت رغم تدثرها بعباءة التحليل الرياضي الجذاب، ولم تُثبت أياً منها جدواها، ولعل الواقع الراهن لهذه البلدان التي أخذت بتلك النظريات أبلغ دليل على ذلك.

        ظهر مفهوم التنمية الاقتصادية كأحد فروع علم الاقتصاد في إطار مجموعة من النظريات التي حاولت تفسير ظاهرة التخلف. وقد رأت بعض هذه النظريات في التخلف مجموعة من المعايير والعوامل المعرقلة للنمو ولعل من أشهر قوائم هذه المعايير قائمة لايبنشتاين التي تتضمن الأوضاع السكانية غير الملائمة، وضآلة الموارد الطبيعية أو الانتفاع الجزئي بها، ونقص رأس المال أو عدم كفايته، وانخفاض مهارة العاملين أو تدني إنتاجية العمل. بينما رأى البعض الآخر في نظرية الحلقة المفرغة طوق نجاه حيث يقتصر الحل على البحث عن أضعف نقاط هذه الحلقة في محاولة لكسرها، ومن ثم يمكن الخروج من حالة التخلف، ولعل نظريات بولدوين، وفاينر، وجيرالد ماير تمثل أشهر هذه الحلقات. ثم تأتي نظريات التفسير السوسيولوجي للتخلف، كفكرة المجتمع التقليدي الراكد عند هوستلز، وهاجن، وبارسونز. أو فكرة الازدواج الاجتماعي/ الفني والخاصة بوجود قطاعين متنافرين في الدولة هما القطاع التقليدي والقطاع الرأسمالي، وهي الفكرة التي جاء بها بوكه. وفي محاولة لاستخدام التفسير التاريخي كانت نظرية مراحل النمو التي جاء بها روستو.

أما التحليل الأكثر قرباً من واقع الظاهرة فهو ذلك التحليل الذي أرجع ظاهرة التخلف إلى مجموعتين من العوامل: تشيع البعض لمجموعة العوامل الخارجية ورأى فيها العوامل الحاسمة لظهور التخلف، ومن أشهر المؤيدين لها ميردال، وبريبتش، وسنجر، وآرثر لويس. بينما تشيع البعض الآخر لمجموعة العوامل الداخلية، وأرجع التخلف إلى عوامل داخلية صرفه، ومن أشهر المؤيدين لها مينت، ونوركسيه، وماير، وبولدوين. ونظراً لأن الكتاب لا ينصب أساساً على تحليل نظريات التخلف والتنمية الاقتصادية فإننا لن نتعرض بالنقد والتحليل لهذه النظريات، وسنكتفي بالقول بأن الخطأ الرئيسي الذي وقعت فيه غالبية هذه النظريات أنها بدأت بمحاولة تبرير الواقع، مع التشيع لسبب أو مجموعة من الأسباب دون الأخرى وتجاهل علاقات التأثير المتبادل فيما بينها، وحينما حاولت أن تأخذ التأثير المتبادل كانت النظرية المبتذلة لحلقات الفقر المفرغة، وحينما حاولت الأخذ بالتفسير التاريخي كانت نظرية مراحل النمو لروستو التي ثبت فشلها. وفيما يلي نحاول إلقاء الضوء على طبيعة العلاقات الدولية التي أفرزت ظاهرة التخلف تاريخياً، مع التركيز على تطور أشكال نزح الفائض الاقتصادي إلى خارج البلدان المتخلفة. ثم طبيعة الدولة داخل البلدان المتخلفة وكيف تعاملت مع تلك الظاهرة، وذلك لكون ظاهرة التخلف محصلة للتفاعل بين علاقات استغلال المجتمعات الإنسانية لبعضها البعض، واستغلال الطبقات الاجتماعية لبعضها البعض داخل المجتمع الواحد.

ثانيا: مفاهيم التنمية الاقتصادية:
كان لانتشار مصطلح التنمية الاقتصادية الفضل في إعادة الاهتمام بعملية التنمية الاقتصادية. ومع نشأة علم التنمية الاقتصادية كأحد فروع علم الاقتصاد أصبح من الضروري تحديد مضمون المفاهيم الأساسية المستخدمة، مع توضيح لمضمون بعض المفاهيم الخاصة الأكثر أهمية، وإن كانت أقل انتشاراً.     

1-     التنمية وعلم الاقتصاد:

منذ نشأة وتبلور نظريات التنمية الاقتصادية، وبعد توفر إطار عام يضم هذه النظريات، بالإضافة إلى المنهجيات الخاصة بدراستها اصبح من الممكن النظر إليها كموضوع مستقل بذاته، وكفرع من فروع علم الاقتصاد السياسي بصفته العلم الأصيل لكافة العلوم الاقتصادية. ويمكن إرجاع النطاق الزمني لنشأة ذلك العلم إلى منتصف القرن الحالي، حيث بدأ الاهتمام بدراسة الأحوال الاقتصادية لبلدان المستعمرات التي حصلت على استقلالها حديثا في إطار حركة التحرر الوطني خلال عقدي الخمسينات والستينات. وقد اهتمت هذه الدراسات ببحث أسباب تخلف هذه البلدان حديثة الاستقلال، إلا أن ذلك لا يعنى عدم وجود نظريات وأفكار خاصة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية قبل ذلك التاريخ، فمن المعروف أن علم الاقتصاد استند في نشأته على أفكار كل من الطبيعيين والكلاسيك، فنجد الاهتمام بالنمو والركود والتوازن والثروة من الموضوعات الأساسية عند عدد من الكلاسيك سميث، ريكاردو، مالتس. كما نجد الاهتمام بالتوازن الطبيعي وحرية التجارة، والدور الأساسي للزراعة في إحداث النمو الاقتصادي من الموضوعات الأساسية عند الطبيعيين كينية، دى ميرابو، دى لافيير، وكان أول نموذج للتوازن على المستوى القومي من وضع فرانسوا كينية. إلا انه ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر ابتعدت الأضواء عن موضوعات التنمية ليحتل النِتاج الفكري لرواد المدرسة الحدية الرياضية جيفونز، فالراس، منجر مركز الصدارة، ويصبح التحليل الرياضي أداة هامة من أدوات التحليل الاقتصادي على مستوى الوحدة الميكرو ويستمر هذا الحال إلى أزمة الكساد الكبير في الثلاثينات من القرن الحالي حيث يقدم كينز أهم أدوات التحليل على المستوى الكلى الماكرو والتي أمكن بها للنظام الاقتصادي الرأسمالي الخروج من تلك الأزمة الخانقة.


        وتأتي الحرب العالمية الثانية ليزداد تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد، ويستمر ذلك التدخل إلى ما بعد الحرب. وتحصل بلدان المستعمرات على استقلالها، لتعود قضايا التنمية والنمو وتحتل مكانة بارزة في الفكر الاقتصادي من خلال النماذج التي قدمها  النيوكلاسيك سولو، ميد، روبنسون، ومن خلال نماذج المحدثين أمثال  فلنر، روستو، نيركسية. ولكن في هذه المرة يأتي هؤلاء المفكرون مسلحون بأدوات التحليل الرياضي المتقدم، وبأدوات التحليل الكينزى مما جعل تلك النماذج اكثر انضباطا واشد جاذبية. وعلى الجانب الآخر كانت هناك مدرسة أخرى لها خصوصيتها التي تستند إلى فكرة الفائض الاقتصادي وعملية إعادة الإنتاج لكارل ماركس، وكان من روادها في فترة الستينات بول سويزى، بول باران، شارل بتلهيم، اوسكار لانج. كما ظهرت في نفس الفترة مدرسة التبعية لتفسير ظاهرة التخلف، والتي كان من روادها المفكر المصري سمير امين بنظريته الخاصة بالمركز والمحيط. وفى السبعينات تبلورت نظرية الاعتماد على الذات، والتي تطورت إلى نظرية الاعتماد الجماعي على الذات على يد مجموعة من مفكرى أمريكا اللاتينية انريك اوتيزا، آن زاميت، كاترين كينريك والمفكر المصري محمد دويدار.

2-     التنمية والنمو:

تبدأ غالبية مؤلفات التنمية الاقتصادية بالتفرقة بين مفهومي التنمية والنمو، ويجتهد كل مؤلف في إضافة المزيد من الفروق بين المفهومين. إلا انهم يتفقون على أن مفهوم النمو الاقتصادي يعنى النمو الكمي لكل من الدخل القومي والناتج القومي، كما يُستخدم المفهوم عند الإشارة للبلدان المتقدمة. أما مفهوم التنمية الاقتصادية فهو يتضمن بالإضافة إلى النمو الكمي إجراء مجموعة من التغييرات الهيكلية في بنيان المجتمعات، كما يُستخدم عند الإشارة للبلدان المتخلفة. فيقول بونية (أن النمو الاقتصادي ليس سوى عملية توسع اقتصادي تلقائي، تتم في ظل تنظيمات اجتماعية ثابتة ومحددة، وتقاس بحجم التغيرات الكمية الحادثة. في حين أن التنمية الاقتصادية تفترض تطويرا فعالا وواعيا، أي إجراء تغييرات في التنظيمات الاجتماعية للدولة). أما جوركنسون فيقول (أن الفرق بين نظريات التنمية ونظريات النمو يكمن في أن نظريات التنمية تُركز اهتمامها على الموازنة بين تراكم راس المال والزيادة السكانية، في حين تركز نظريات النمو على التوازن بين التوظيف والادخار). وتؤكد أورسولا هيكس على أن (مفهوم النمو ينطبق على البلدان المتقدمة اقتصاديا والتي تتميز باستغلال مواردها المعروفة استغلالا شبة كامل، أما مفهوم التنمية فينطبق على البلدان المتخلفة والتي تمتلك إمكانيات التقدم ولكنها لم تقم بعد باستغلال مواردها). ويأتي شومبيتر فيعتبر (النمو تغير تدريجي منتظم يحدث على المدى الطويل نتيجة للزيادة الكمية في الموارد، أما التنمية فهي تغير غير متصل وتظهر بفعل قوى توسعية ضاغطة). وقول هيرشمان (أن التغيرات الهيكلية التي تحول الاقتصاد التقليدي إلى اقتصاد حديث لم تعد ضرورية بالنسبة للدول الصناعية المتقدمة، والنمو هو حركة النظام الاقتصادي الذي يسير وفقا لآليات السوق، أما التنمية فهي حركة النظام الاقتصادي الذي يسير وفقا لخطط متعمدة من الدولة). كما يقدم كندلبرجر تفرقته بين النمو والتنمية فيقول (يعنى النمو إنتاجا اكثر عن طريق التوسع في استخدام المدخلات وتغير التوليفات التي تؤدى إلى زيادة الإنتاجية، أما التنمية فتعنى تغييرات في هيكل الإنتاج وتخصيص الموارد بين القطاعات الاقتصادية). أما كوسوف فيقول (أن النمو هو التغير في حجم النشاط الاقتصادي، بينما تعنى التنمية بالإضافة للتغير في حجم النشاط تغير في هيكل المقتصد لصالح القطاعات الأكثر تأمينا لتطوره على المدى الطويل أو لصالح اكثر القطاعات حيوية).

يتضح مما سبق أن المفهوم السائد للنمو هو التوسع الاقتصادي التلقائي غير المتعمد والذي لا يستدعى تغيير في الهيكل الاقتصادي للمجتمع، ويقاس بحجم التغير الكمي في المؤشرات الاقتصادية ( الإنتاج القومي، الدخل القومي،......)، وينطبق ذلك المفهوم على البلدان المتقدمة. أما المفهوم السائد للتنمية فهو التوسع الاقتصادي المقصود والذي لا يمكن أن يحدث بدون تدخل الدولة، ويقتضي بالضرورة تغيير الهيكل الاقتصادي للمجتمع، وعلى ذلك تصبح المقاييس الكمية غير كافية لقياس درجة التنمية، وينطبق ذلك المفهوم على البلدان المتخلفة. إلا أن الدراسة العلمية للمحتوى السائد لهذه المفاهيم في إطار فلسفة علم الاقتصاد تؤدى بنا إلى نتائج مغايرة تماماً وذلك على النحو التالي:
   - من المعروف أن أي فعل إنساني هو فعل واع ومقصود، بمعنى أن هناك تصور مُسبَق لنتيجة هذا الفعل قبل أن يقدم الإنسان على تنفيذه، خاصة خارج نطاق الفعل الغريزي. والنشاط الاقتصادي فعل يختص به الإنسان وحدة، ومن هنا لا يمكن أن يكون هذا الفعل غريزياً أو تلقائياً بل هو فعل مقصود مهما اختلفت طبيعة المجتمع الإنساني الذي يُمارس فيه هذا النشاط. وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك نمو اقتصادي تلقائي وآخر غير تلقائي.
   - إذا كان المقصود بالتلقائية عدم التدخل الحكومي في إدارة الاقتصاد الوطني فان ذلك أيضاً يُعد افتراض غير صحيح مهما كانت درجة الحرية الاقتصادية التي يتمتع بها ذلك المجتمع. وإلا بماذا نسمي خطط التنمية الفرنسية والاسكندنافية وغالبية بلدان أوربا الغربية  وهل يصح في هذه الحال أن نطلق على الخطة الخمسية في فرنسا خطة النمو الاقتصادي، ونطلق على الخطة الخمسية في مصر خطة التنمية الاقتصادية.
- أن استمرارية نمط الهياكل الاقتصادية للبلدان المتقدمة التي يفترضها مفهوم النمو افتراض غير صحيح، لأنه من المعروف أن أي نمو كمي يؤدى بالضرورة بعد فترة زمنية إلى تغيرات نوعية نتيجة للأثر التراكمي للنمو، هذا إذا كنا نتحدث عن مجتمع مغلق فما بالنا الآن مع ازدياد درجة التداخل والتأثير المتبادل بين المجتمعات. فالتغير هو السمة الأساسية للمجتمع الإنساني.

        يتضح مما سبق أن الفصل بين المفهومين السائدين للتنمية والنمو يرتكز إلى أسانيد غير علمية وغير دقيقة. ونعتقد أن سبب الاهتمام المُبالغ فيه للفصل بين المفهومين على النحو السابق بيانه والذي شارك فيه كل من المفكرين الغربيين والشرقيين والذي تنبه له الاقتصادي المجرى توماس سنتش، إنما يعود إلى المناخ العالمي السائد خلال عقدي الخمسينات والستينات الذي تميز بالحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة وبين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي والتنافس فيما بينهما لاحتواء البلدان حديثة الاستقلال والتي عرفت بالدول النامية. فالمعسكر الاشتراكي الذي حقق نجاحات كبيرة في اجتذاب غالبية البلدان النامية إليه يستند إلى أيديولوجية حتمية التطور المتصاعد للمجتمع الإنساني من العبودية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية ثم إلى الاشتراكية، وأن كل مرحلة من تلك المراحل تختلف كيفيا عن المراحل الأخرى. ولما كانت الحاجة ضرورية لإجراء تغييرات كيفية في اقتصاديات البلدان النامية لتصحيح الهيكل المتخلف الناتج عن سنوات الاستعمار الطويلة، فان ذلك يعنى الإقرار بالفكرة الأيديولوجية للمعسكر الاشتراكي، وبالتالي تطرح إمكانية التغيير الكيفي داخل البلدان الرأسمالية المتقدمة. انطلاقا من ذلك المأزق كانت أهمية تبرير المقترحات الخاصة بضرورة التغيير الهيكلي في البلدان المتخلفة وعدم ضرورة هذا التغيير في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ومن ثم جاء إطلاق مصطلح النمو الاقتصادي على التطور الاقتصادي في البلدان المتقدمة وإطلاق مصطلح التنمية الاقتصادية على التطور الاقتصادي في البلدان المتخلفة. ومع انهيار تجارب التطبيق الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي وبلدان أوربا الشرقية منذ أواخر الثمانينات اختفى ذلك الاهتمام بالتفرقة بين المفهومين في أدبيات التنمية الاقتصادية حيث انتهى الدافع الأيديولوجي لهذه التفرقة بانفراد الولايات المتحدة بقيادة الاقتصاد العالمي. وبدأت مفاهيم جديدة تحتل بؤرة الاهتمام العالمي لتساعد على إحكام سيطرة الولايات المتحدة على العالم. ومن أهم تلك المفاهيم الجديدة: التحرر الاقتصادي، آليات السوق، التكيف الهيكلي، الخصخصة، إزالة الحواجز الجمركية...... وهكذا.

3-   مفهوم التنمية الاقتصادية:

بعد التعرف على آراء العلماء في التفرقة بين مفهومي النمو والتنمية، وانتهاء باعتبار الجهود الإنسانية المبذولة لتطوير المجتمعات من قبيل التنمية الاقتصادية بغض النظر عن اتجاهات سياسات التنمية وتباينها، واعتبار جميع الجهود الإنسانية جهود واعية ومقصودة، واستبعاد تقسيم بلدان العالم تبعا لمفهومي التنمية والنمو حيث تنهج جميع بلدان العالم سياسات للتنمية الاقتصادية ينجم عنها تحقيق معدلات للنمو الاقتصادي، يمكن بسهولة التوصل إلى تعريف للنمو الاقتصادي بأنه تغير في حجم النشاط الاقتصادي. أما مفهوم التنمية الاقتصادية من وجهة نظرنا فإنه يقتضي إضافة أبعادا جديدة، وذلك على النحو التالي:

1- أن يكون التغير في حجم النشاط الاقتصادي بالزيادة.
2- أن تستند عملية التنمية بالدرجة الأولى على القوى الذاتية للمجتمع.
3- أن تضمن عملية التنمية تحقيق نمو متواصل ومستمر من خلال تجدد موارد المجتمع بدلا من استنزافها.
4- أن تحقق توازناً بين قطاعات المجتمع الاقتصادية وأقاليمه الجغرافية.
5- أن تلبى حاجات الغالبية العظمى لأفراد المجتمع.
6- أن تحقق قدرا أكبر من العدالة بين أفراد المجتمع.


دكتور/ محمد مدحت مصطفى
                                     أستاذ الاقتصاد االزراعي بجامعة المنوفية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق