الخميس، 11 أغسطس 2016

جيرولامو سافونارولا ... مُعارض من داخل الكنيسة



يموج عصر النهضة في أوروبا بتيارات التناقض العنيف بين قديم متخلف يتمسك بأهداب الماضي ويتسلح بكهنوت الدين، وبين حديث متقدم يستشرف المستقبل ويتسلح بمنطق العِلم، وقد استغرق ذلك التناقض العنيف والصراع نحو ثلاثة قرون. كانت البداية للإصلاح من داخل الكنيسة وعلى يد راهب كاثوليكي ومصلح ديني منغلق على نفسه، وفي نفس الوقت معادي للعلم ومنهجه بنفس حماس معاداته لفساد الكنيسة، ومع ذلك كان مصيره الحرق ذلك هو الراهب جيرولامو سافونارولا
، وبعدها بمائة عام يأتي مصلح ديني آخر لكنه في هذه المرة رجل مستنير ومؤيد للعلم ومنهجه، ومُعارض للكاثوليكية فكان من الطبيعيى أن يلحق سابقه بالموت حرقاً ذلك هو جوردانو برونو، أما الثالث الذي كان على شفا المحرقة فهو العالم الجليل جاليليو جاليلي، الذي عاصر حرق برونو وحاول أن يجد صيغة يتعايش فيها مع العِلم دون استثارة الكنيسة، فعندما رفع شعار العِلم كان حريصاً أن لا يرفع بجواره شعار معاداة الكنيسة، ورغم ذلك حكمت عليه محكمة التفتيش بالسجن ، وبحرق مؤلفاته التي يؤيد فيها نظرية كوبرنيكس القائلة بدوران الأرض. ثم نأتي لنيكولاس كوبرنيكس الذي أفلت من الموت حرقاً على الرغم من أن هناك من أحرقوا فعلاً بسبب الترويج لآرائه ونظرياته.



يُعَد جيرولامو سافونارولا أحد ضحايا محاكم التفتيش من داخل المؤسسة الدينية في عصر النهضة، فإدانته من قِبَلّ هذه المحاكم لم يكن بسبب آرائه المستنيرة لما عُرِفَ بالمذهب الإنساني "الهيومانيزم" حيث كان مُعارضاً شديداً لهذا المذهب، بل كان بسبب احتجاجه على تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وممارسات باباواتها وكرادلتها خاصة زمن البابا بوتشنتو الثامن، والبابا الكسندر السادس. ومن ثم فهو ليس أحد دُعاة التنوير العِلمي في هذا العصر، بل كان أحد دُعاة التشدد في نبذ مباهج الحياة الدنيا والعمل من أجل الحياة الآخرة. فبنفس الشِدة التي هاجم فيها الكنيسة لاهتمامها بالطقوس والشعائر أكثر من اهتمامها بالروحانيات والتمسك بتعاليم الإنجيل هاجم أيضاً المهتمين بالعلوم والآداب والفنون الدنيوية. كما أنه كان من أشد معارضي القومية الإيطالية، أي ضد الوحدة الإيطالية حيث كان مع الوحدة المسيحية التي عمل باباوات روما على إقامتها من عهد جريجوري السابع الذي تولى لفترة اثني عشر عاماً (1073- 1085م) حتى عهد بنيفاس الثامن الذي تولى لفترة تسعة أعوام (1294- 1303م). وترجع أهمية شخصية هذا الراهب إلى أنه جاء في زمن جمع بين تجاوز كنيسة روما لكل حدود المعقول، وبين حركة التنوير في فلورنسا عاصمة توسكانيا تحت رعاية لورانزو دي مديتشي، كما أن آراؤه المتُشددة ظلّت نبراساً لعدد كبير من المريدين بعد ذلك، ورغم أنه كان ينادي بالإصلاح من داخل الكنيسة وضد الانفصال والتشرذم الكنسي المسيحي جاءت الدعوة البروتستنتية بعد موته بنحو عشرون عاماً فقط وتؤسس كنيستها المستقلة عن الكنيسة الكاثوليكية.

1-النشأة: 
وُلِد جيروم سافونا رولا في 21 سبتمبر 1452م بمدينة فيرارا، وتلقى التعليم في معاهدها، والتحق بجامعتها وهو في الثامنة عشر من عمره، إلا أن حياته الجامعية لم تستمر طويلاً حيث كان دائم الاشتباك مع أساتذته، فترك الجامعة إلى منزل أبيه، ومنه إلى دير سان دومينك في مدينة بولونيا ليُصبح واحد من الرهبان الدومنيكان، وكان ذلك في 26 إبريل 1475م عندما كان يبلغ من العمر 23 عاماً. وفي رسالة تركها لأبيه قبل مغادرة منزل الأسرة كتب يقول [… طلبت من الله أن يهدني إلى الطريق الذي ينبغي علي أن أسلكه حتى أستطيع أن أرتفع بروحي إليه، عندئذ هداني الله وقت أن أذنت مشيئته إلى الطريق برحمته اللانهائية، وتلقيت الوحي رغم أني لم أكن أهلاً له …]، وهذا يعني ثقته الزائدة في هذه السن المُبكرة بأن ما يقوم به هو وحي من الله، مما يرفعه إلى مرتبة الرُسل. 

2-الدعوة: 
في عام 1481م أغلِق دير سان دومينيك بسبب الحرب وتوزع الرهبان على الأديرة الأخرى، وكان من نصيب سافونا دير سان ماركو في فلورانسا، حيث امتاز رهبان هذا الدير بالثقافة العالية والبلاغة اللغوية التي كان يفتقدها سافونا. وفي إطار المنافسة مع كبير رهبان الدير الراهب ماريانو الذي طبقت شهرته الآفاق بالبلاغة والمنطق اختار سافونا "سفر الرؤيا" ليكون مدخله في الوعظ، وسفر الرؤيا هو السفر الذي يُنذر البشر باقتراب علامات الساعة بسبب كثرة ذنوبهم وأوزارهم، ويتوعد الخطاة بنهاية العالم بالكوارث الكونية ويفتح أمامهم هاوية الجحيم بعد أن يرفع الله الأبرار إلى الملكوت مع المسيح القادم في آخر الزمان، وهكذا وجد سافونا ضالته بسلسلة عاصفة من المواعظ لا يحتاج الأمر فيها بلاغة أو منطق ولكن يحتاج فقط إلى بساطة الكلمات وسرعة نفوذها وتأثيرها. وقد ساعد سافونا في دعوته مناخ الفساد الذي ساد في روما مركز البابوية في ذلك الوقت، فبينما تؤكد الكاثوليكية على أن الرهبان ومنهم الكرادلة والبابوات يُنذرون لله ثلاثة نذور يوم يدخلون باب الدير وهي: نذر العفة، ونذر الفقر، ونذر الطاعة نجد أن البابا إينوتشنتو الثامن (1432 – 1492م) الذي اعتلى كرسي البابوية عام 1484م قد اشتهر بالمحسوبية وخراب الذمة وعلاقاته النسائية المتعددة، وعندما توفي عام 1492م خلفه البابا الكسندر السادس (1431 – 1503م) الذي اعترف علناً بثلاثة أبناء غير شرعيين هم: سيزار بورجيا، لوكريشيا بورجيا، ودوق كانديا، وانتشرت في عهده تجارة صكوك الغفران، وتوسعت أملاك الرهبان ورجال الدين. 

3-حكومة الله: 
كل هذا دفع سافونا إلى شن حملة شعواء ضد الفساد وأخذ يردد [… لقد فسد العصر بسبب فساد الكنيسة، وقُتِلَ الإيمان وقاتلة هو الكنيسة … ]. ثم قرر سافونا ترك الدير لنشر دعوته، وأخذ يتنقل في أنحاء لومبارديا مدة سبع سنوات يكسب فيها مزيد من المريدين حتى جاءته دعوة لورنزو دي مديتشي عاهل فلورانسا بالعودة إلى دير سان مارك، وهناك بدأ موعظته الأولى حول ضياع الإيمان وظُلم العالم وفساد الكنيسة، وتجمهر الناس كأنهم في يوم الحشر، ولم تعد الكنيسة تكفي فأخذ يعظ في الميادين والناس تبكي استغفاراً. وفي 1491م انتخب رئيساً لدير سان ماركو، وأصبح هو الحاكم الفعلي لفلورانسا، واعتبره المؤرخون أول مؤسس للثيوقراطية "حكومة الله" في العالم المسيحي، ثم امتدت سيطرته إلى برلمان المقاطعة، وكون خمس فرق من شباب المدينة لتنفيذ تعاليمه وهي: فرقة "المُصالحين" الذين يفضون المُشاجرات، فرقة "المُصلحين" الذين يُعاقبون مرتكبي الرذائل، فرقة "المُفتشين" الذين يبحثون عن رذائل الناس وعوراتهم ، فرقة "جامعي الصدقات" الذين يقومون بجمع التبرعات من الناس، وفرقة "المُنظفين" الذين يطلون بالجير الأبيض الأماكن القذرة . وأطلق الناس على هذه الفرق اسم "غلمان الفرير"، وقد تحولت هذه الفرق الخمس من الصبية والشبان إلى قوة مخيفة بعد أن رخصت لهم الحكومة مزاولة هذا "الإرهاب المقدس"، وتعددت عدوانية هذه الفرق على الحرية الشخصية للمواطنين، وقاموا بمصادرة المقتنيات الشخصية وأدوات التجميل واللوحات الفنية والمؤلفات الأدبية والفلسفية وأضرموا فيها النيران، وأصبح الأبناء يُبلغون عن رذائل الآباء. وأصدر قوانين خاصة بتحريم الرقص والغناء، وإغلاق الحانات، وتحريم الرق، وتحريم سباق الخيل، وتعليق المُقامرين، وإحراق الزاني في حال تكرار جريمته، ومنع النساء من المشاركة في الحياة العامة، وجلد النسوة المتبرجات وسجنهن في عادة العودة، والشنق لمن يكنز الذهب، وغيرها الكثير. ثم أصدر قراره بتحريم الربا الذي أثار عليه اليهود وكذلك رجال البيوت المالية من المسيحيين. إزاء كل ذلك أخذت المعارضة الداخلية تنظم صفوفها التي تمثلت في كل من: أنصار آل مديتشي، رجال المال من كبار الأثرياء، القوميين الإيطاليين أنصار "الرابطة الإيطالية"، فرق الرهبان المنافسة للدومينيكان كالفرنسيسكان، وبعض رهبان الدومينيكان المعارضين لسافونارولا.

4-من المنع إلى الحرق: 
ظل البابا الكسندر السادس يرقب الأحداث وينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على سافونا، فأرسل إليه خطاباً في 21 يوليو 1495م يستدعيه فيه إلى روما [ إلى ابننا المحبوب نهدي بركتنا الرسولية، لقد سمعنا أنك أشد العاملين في كرمة الرب غيرة، فابتهجنا لذلك أشد الابتهاج وحمدنا الله العلي القدير على هذا. وسمعنا كذلك ما تؤكده من أن تنبؤاتك لا تصدر منك بل من الله. ومن أجل هذا نرغب في أن نتحدث إليك في هذه الأمور كما يقضي علينا بذلك قيامنا على رعاية أبناء هذا الدين ] ، فأرسل سافونا يعتذر عن الحضور بحجة المرض، مما دعا البابا إلى إلغاء قرار سابق باستقلال دير سان مارك عن ولاية كنيسة لومبارديا مما يعني عودة إشراف الكنيسة على الدير وضرورة الالتزام بتعليماتها، وللمرة الثانية يرفض سافونا تنفيذ القرار، فرد البابا بمنعه من الوعظ اتقاء لبلبلة الخواطر حتى يتم استقباله في روما فجاء الرد هذه المرة عنيفاً بخطبة نارية جاء فيها [… إن البابا لا يستطيع أن يأمرني بعكس ما يقول به الإنجيل أو بعكس ما يأمرني به الخير، ولا أظن أن البابا فاعل هذا في يوم من الأيام لأنه إذا فعل سأقول له أنت لم تعد راعي المؤمنين، أنت لم تعد كنيسة روما ، أنت تُضِل. ولو طلب مني مغادرة مدينتي فلن أطيع لأن ذلك سيكون مخالفاً لأمر الله … أي روما استعدي لأن عقابك سيكون عظيماً، سوف يطوقك الحديد وتخترقك السيوف وتلتهمك النيران … أي روما لقد أصابك المنون، لقد اعتلت صحتك ، لقد انصرفت عن سبيل الله. لقد أفسدتك الذنوب فإذا شئت أن تبرئي فكفى غروراً، كفى طمعاً، كفى زنا ، كفى جشعاً … قال الرب ما دامت إيطاليا مليئة بالمظالم والبغايا وقطاع الطريق والنصابين فسوف أمحق أمراءها وأحطم كبرياؤها وأقود إليها أحط شعوب العالم لتحكمها فتستولى على محاريبها وتدنس كنائسها التي غدت مرتعاً للبغايا … أي إيطاليا سوف تتعاقب عليك الكوارث مثل: الحروب بعد المجاعات، والأوبئة بعد الحروب ]. وبهذه الخطبة بلغ سافونارولا نقطة اللاعودة مع الكنيسة حتى أصدر البابا قرار الحرمان في 18 مارس 1497م، وقامت جميع كنائس فلورانسا بتلاوة قرار الحرمان على رعاياها وسط طقوس "الموت الروحي" ودقات أجراس الكنائس. وجاء في قرار الحرمان الكنسي [… أن الأخ جيروم المذكور قدر صدر عليه قرارنا بالحرمان لأنه خرج على تنبيهاتنا وأوامرنا الرسولية، وبموجب هذا القرار فإن كل من يحاول أن يساعده، أو أن يخالطه، أو أن يمتدحه سواء بالقول أو بالفعل سوف يُحرم وتوجه إليه تهمة الزندقة … ]، واعتكف سافونا في الدير مدة ستة أشهر جرت خلالها وساطات كثيرة مع البابا لإلغاء قرار الحرمان، وجاء رد البابا [ أن قرار الحرمان جاء بسبب العصيان، فإذا جاء سافونا رولا إلى روما وخضع لنظام توحيد رهبان توسكانيا مع رهبان روما، اُعتُبِر هذا اعلاناً بالخضوع، فلا غفران بغير خضوع للكنيسة ]، فكتب سافونا للبابا اعتذاراً ذليلاً، إلا أن البابا تمسك بحضوره إلى روما، ورفض سافونا الحضور. وفي عيد الميلاد 25 ديسمبر 1497م خرق سافونا قرار الحرمان وأقام القداس في كنيسة دير سان مارك، وفي عيد التجلي 6 يناير 1498م أقام أيضاً القداس وسط مريديه، ومن ثم عاد إلى سيرته الأولى بإلقاء خطبه النارية مما كان له أسوء الأثر في الفاتيكان الذي أرسل إلى حكومة فلورنسا طالباً تسليمه، وفي 18 مارس 1498م ألقى سافونا خطبته الأخيرة وأعلن الاعتزال وتجنب الوعظ، إلا أنه أخذ يُراسل ملوك أوربا طالباً عقد المجمع المسكوني العالمي واستمر في ذلك عدة شهور، مما عجل بالقبض عليه ومحاكمته في فلورنسا، وبعد عشرة أيام من التعذيب وأربعون يوماً من التحقيق وقع سافونارولا أمام خمسة من رهبان دير سان مارك أنه كان نبياً كذاباً، وأن كان يدعي ما يدعيه من أجل المجد والشهرة. فصدر عليه الحكم بالإعدام شنقاً ثم الحرق في الميدان الكبير، وصدر نفس الحكم على أقرب مساعديه الأخ سيلقستر والأخ دومينيك. وفي 23 مايو 1498م تم تنفيذ الإعدام في الميدان الكبير مرتين الأولى شنقاً كعقاب من الدولة لكونه دجالاً والثانية حرقاً كعقاب من الكنيسة لكونه زنديقاً، حيث تم نصب ثلاث مشانق محاطة بكميات كبيرة من الخشب والحطب. 

5-سافونا والربا: 
تطبيقاً لمبادئ الشريعة المسيحية حرم سافونارولا الربا الذي كان يُرادف الفائدة على القروض فقضى بذلك على النظام المصرفي، وأحل محله بنك للتسليف على الرهونات أطلق عليه "بنك التقوى" الذي كان يُقدم قروضاً على الرهونات بفائدة قدرها 6 % فقط بدلاً من سعر الفائدة السائد والذي كان يبلغ 32 %، وفي تبريره لسعر الفائدة المنخفض أن هذه القروض تُقدم على سبيل الإحسان وهذه الفائدة الضئيلة هي نظير المصاريف الإدارية للبنك. وأصدر سافونا تعليماته بنفي أي يهودي يقوم بالإقراض بعد إنشاء هذا البنك مما أثار يهود فلورنسا عليه، أما المعارضة الحقيقية لهذا القرار فجاءت من البيوت المالية العتيدة التي كانت تمول التجارة في فلورنسا وهي بيوت يمتلكها المسيحيون، بينما كان اليهود يكتفون بإقراض المواطنين بالقروض الزهيدة. وقد ترتب على هذا القرار انهيار الحالة الاقتصادية في البلاد حيث امتنعت هذه البيوت عن تمويل التجارة في الوقت الذي لم يتمكن فيه "بنك التقوى" من القيام بمهامها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق