الخميس، 11 أغسطس 2016

نيكولاس كوبرنيكوس ... أفلت من الموت حرقاً


نيكولاس كوبرنيكس الذي أفلت من الموت حرقاً على الرغم من أن هناك من أحرقوا فعلاً بسبب الترويج لآرائه ونظرياته , قصة يجب أن نعرفها.



1-النشأة: 
ولد نيكولاس كوبرنيكوس عام 1473م بمدينة تورن في بروسيا الغربية، وتعلم في جامعة كراكوف حتى بلغ الثامنة عشر، ثم عين كاهناً بكاتدرائية فراونبورج في بروسيا الشرقية –كانت بروسيا تابعة لبولندا في ذلك الوقت- انتقل بعدها إلى جامعة بولونيا في إيطاليا لدراسة الرياضيات والفيزياء والفلك خلال الفترة 1497- 1500م، وهناك تعرف على آراء الفلكيين الإغريق الذين تشككوا في ثبات ومركزية الأرض، ومنهم:
- فيلولاوس البيثاجوري (القرن الخامس ق.م) الذي قال أن الأرض وسائر الكواكب تدور حول نار مركزية غير مرئية أطلق عليها "هستيا".
- هيكيتاس السيراكوزي (القرن الخامس ق.م) كان يعتقد أن الشمس والقمر والنجوم ثابتة، وأن حركتها الظاهرة إنما تعود لدوران الأرض حول محورها.
- أريستارخوس الساموسي (310- 230 ق.م) قال بدوران الأرض حول الشمس إلا أنه سرعان ما تراجع عن رأيه بعد أُتهم بالضلال.

وقد توقف هذا كله بعد أن ظهر كلوديوس بطليموس السكندري (القرن الثاني الميلادي) ليؤكد من جديد وضع الأرض المركزي. أما في تفسير دوران الكواكب فقد أخذ برأي هيبارخوس القائل بوجود العديد من الدوائر الصغيرة والدوائر مختلفة المركز تسير فيها هذه الكواكب. لتعود آراء بعض العلماء من جديد لتقول بدوران الأرض، ومنهم:
- نيكولي أورسيمي (1330- 1382م) الذي قال بدوران الأرض.
- نيكولاس الكوزاوي (1452- 1519م) قال أيضاً بدوران الأرض.
- ليوناردو دافينشي (1452- 1519م) قال إن الشمس لا تتحرك، وأن الأرض ليست في مركز دائرة الشمس، كما أنها ليست مركز الكون.

عندما انتهت دراسة كوبرنيكوس في جامعة بولونيا وعاد للعمل كاهناً في مدينته فراونبورج ظلت فكرة مركزية الشمس تراوده فطلب العودة لاستكمال دراسته، إلا أنه لسبب غير مفهوم قام بدراسة الطب والقانون، ونال شهادة في القانون من فيرارا عام 1503م، ثم عاد إلى فراونبورج مرة أخرى. إلا أنه لم يستمر في العمل كاهناً حيث سعى أحد أقربائه لإلحاقه بالعمل سكرتيراً وطبيباً في أسقفية هايلسبرج خلال الفترة من عام 1506م حتى عام 1512م، وهي الفترة التي تفرغ فيها لوضع حساباته الرياضية لنظريته وقام بوضع مخططه الأول. إلا أنه سرعان ما فقد وظيفته بعد وفاة راعي الأسقفية، ليعود إلى مدينته للعمل كطبيب. 

2-المخطوط: 
في عام 1514م قام بتلخيص ما توصل إليه في كتاب مخطوط بعنوان "تعقيب موجز" قام بتوزيع بعض نسخه على سبيل جس النبض. وجاء في هذا الكتاب: "أنه ليس هناك مركز واحد لجميع الكواكب، وأن الأرض ليست مركز الكون بل مركز جاذبية لكوكب القمر، وأن الشمس هي مركز الكون وكل الكواكب تدور حولها، وأن الحركة التي تظهر في السماء تنشأ عن تحرك الأرض حول قطبيها في حركة يومية". إلا أن كوبرنيكوس لم يلق رد الفعل الذي كان يتوقعه حيث لم يلق الفلكيين الذين قرءوا الكتاب اهتماماً كافياً به. وفي الفاتيكان كان هناك بابا مستنير هو البابا ليو العاشر الذي تلقى الكتاب برحابة صدر وطلب من كوبرنيكوس إيضاح فكرته. إلا أن مارتن لوثر رفض نظريته وقال "إن هذا الأحمق يريد أن يقلب نظام الفلك كله رأساً على عقب، لكن الكتاب المقدس يُخبرنا بأن يشوع أمر الشمس لا الأرض أن تقف". كما أن كالفن رد على كوبرنيكوس بآية من المزمور الثالث والتسعين تقول "أيضاً تثبتت المسكونة لا تتزعزع" فمن ذا الذي يجرؤ على ترجيح شهادة كوبرنيكوس على شهادة الروح القدس. إذن فقد جاء رد الفعل محبطاً له، لكن ذلك لم يمنعه من استكمال عمله حتى انتهى من كتابته عام 1530م، وقام بحفظه منذ ذلك التاريخ ولم يحاول نشره حتى يستمر في حياته العامة الرتيبة.

3-زيارة غريبة:
 في عام 1539م اقتحم شيخوخة كوبرنيكوس شاباً في الخامسة والعشرون من عمره يُدعى جورج ريتيكوس يعمل أستاذاً في جامعة فيتنبرج كان قد قرأ "التعقيب الموجز" وقام بدراسته واقتنع بصدقه وقام بحث كوبرنيكوس على نشره، الذي وافق بعد عام كامل على أن يقوم الشاب بنشر تحليل مبسط للفصول الأربعة الأولى في كتاب. وفي عام 1540م صدر في مدينة دانتزج ذلك الكتاب بعنوان "أول تقرير عن كتاب دورات الأجرام السماوية" حيث أثنى فيه ريتيكوس على النتائج التي توصل إليها الكتاب. إلا أن ريتيكوس عندما عاد إلى جامعته فيتنبرج لم يُسمح له بتدريس الكتاب. وعاد ريتيكوس مرة أخرى إلى كوبرنيكوس حيث يُقيم في مدينة فراونبورج وأمضى معه عاماً كاملاً يحاول إقناعه بنشر الكتاب كاملاً حتى تم له ذلك، وأخذ ريتيكوس الكتاب إلى ناشر في مدينة نورمبرج تولى جميع النفقات والتبعات بينما سافر هو إلى مدينة ليبزج للتدريس بها، وكان ذلك في عام 1542م، وترك مهمة متابعة النشر لصديقه القس أندرياس أوزياندر الذي كان قد سبق له وأقنع كوبرنيكوس بتقديم الكتاب على أنه مجرد فرض لا حقيقة ثابتة ومن ثم فقد كتب أندرياس في مقدمة الكتاب "نظراً إلى ما ذاع من سمعة هذه الفروض الجديدة،…… فإن فروض الأستاذ ليست بالضرورة صحيحة، ولا حتى مُرجحة…… فلا الفلكي بحساباته ولا الفيلسوف برؤيته يستطيع اكتشاف أي شيئ يقيني ما لم يُكشَف له عنه بالوحي الإلهي. فلنسلم إذن بأن الفروض الجديدة التالية ستتخذ لها مكاناً إلى جوار الفروض القديمة التي ليست أكثر منها رجحاناً. وعلاوة على ذلك فإن هذه الفروض جديرة بالإعجاب وسهلة الفهم حقاً …… أما فيما عدا هذا فلا يتوقعن أحد اليقينية فيما يتصل بالفروض". وعلى الرغم من اعتراض البعض على هذه المقدمة وربما اعتراض الشيخ نفسه عليها، إلا أنها كانت حصافة من القس أندرياس الذي كان يدري بالمناخ العام الذي يُمكن أن يُستقبل به مثل هذا الكتاب الذي صدر بالفعل في ربيع عام 1543م تحت عنوان "الجزء الأول من كتاب نيكولاي كوبرنيكي عن الدورات" أما الاسم الشائع الاستخدام له فهو "في دورات الأجرام السماوية"، ولا يعرف أحد من أين انتشرت هذه التسمية. ووصلت نسخة الكتاب إلى كوبرنيكوس وهو على فراش الموت ليقرأ العنوان فقط ويبتسم ويموت عن سبعون عاماً وكان ذلك في 24 مايو 1543م. 

وفي عام 1581م أقام الأسقف كرومر نصباً تذكارياً لكوبرنيكوس على السور الداخلي لكاتدرائية فراونبورج، وفي عام 1746م أي بعد 165 عاماً أزيل ذلك النصب من على السور ووضع مكانه تمثال لأسقف يُدعى زمبك. لقد كان إهداء الكتاب في صورته الأولى إلى البابا بولس الثالث عملاً هاماً لنزع السلاح من يد المقاومة لكتاب يناقض حرفية الكتاب المقدس، كما أنه بدأ كتابه بالقول "ما زلت أومن أن علينا أن نتجنب النظرات البعيدة كل البعد عن سلامة العقيدة،…… وأنه لجأ إلى البابا بوصفه رجلاً عظيماً في محبته للعلوم جميعها حتى الرياضيات ليحميه من لدغ المفترين الذين سيدعون لأنفسهم الحق في الحكم على هذه الأشياء محتجين بفقرة من الكتاب المقدس وذلك دون إلمام كاف منهم بالرياضيات". ومن الجدير بالذكر هنا أن اثنان من رجال الكنيسة المثقفين قد ألحا على كوبرنيكوس بنشر كشوفه وهما: نيقولا شونبرج كردينال كبوا، وتيدمان جيزي أسقف كولم.

4-محكمة التفتيش: 
كانت نتائج حسابات كوبرنيكوس أقرب ما تكون إلى الصحة، حيث قدر أن كوكب زحل يتم دورته في 30سنة بينما الرقم الحديث 26.24 سنة، وأن كوكب المشترى يتمها في 12 سنة بينما الرقم الحديث 11.86 سنة، وكوكب المريخ في عامان بينما الرقم الحديث 687 يوم، ثم الأرض كل سنة أي 365 أو 366 يوم، وكوكب الزهرة 9 شهور والرقم الحديث 225 يوماً، ثم عطارد في 80 يوم والرقم الحديث 84.02 يوم، ومن هنا نجد أن الفروق طفيفة بين حساباته وحسابات اليوم. وقد قبل فلكيين كثيرين نتائج بحوث كوبرنيكوس أمثال: كريتيكوس، أوزياندر، جون فيلد، توماس ديجيز، إيرزمس رينهولد، وغيرهم. ولم تبد الكنيسة الكاثوليكية اعتراضاً على النظرية باعتبارها فرضاً، لكن محكمة التفتيش لم ترحم جوردانو برونو عندما ذكر أن تلك الفروض حقيقة مؤكدة. وفي عام 1616م حرمت "لجنة الفهرس" قراءة كتاب الدورات إلى أن يتم تصحيحه. وفي 1620م تم حذف تسع عبارات تمثل النظرية على أنها حقيقة، ثم اختفى الكتاب نهائياً من فهرس المراجع، ولم ينته الحظر صراحة إلا في عام 1828م. لقد كانت ثورة كوبرنيكوس أشد عمقاً من حركة الإصلاح البروتستنتي، فقد جعلا الفروق بين العقائد الكاثوليكية والبروتستانتية تبدو تافهة. إنها تماماً مثل نظرية داروين في القرن التاسع عشر. ومما يُذكر أن كوبرنيكوس وضع خلال فترة عمله في أسقفية هايلسبرج العديد من المقالات عن المالية العامة جاء في واحدة منها ما عُرِفَ بعد ذلك بقانون جريشام حيث تطرد العملة الرديئة العملة القديمة الأحسن منها، وقال إن الناس تدفع الضرائب للملك بالنقود الرديئة التي أصدرها الملك وتحتفظ بالنقود الجيدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق