السبت، 24 يناير 2015

هل صحيح أن الاقتصاد المصري، اقتصاد ريعي؟

محمد مدحت مصطفى
 شهدت ساحة اليسار المصري العديد من المقولات الدارجة، التي أصبح استخدامها وكأنه من المُسلمات أو البديهيات، ورغم أن الواقع أثبت فشل هذه المقولات إلا أن تداولها لازال قائماً. ولعل أشهر هذه المقولات، طريق التطور اللا رأسمالي التي أطلقت على البلدان المناهضة للإستعمار والتي قامت بتأميم بعض المشروعات لصالح الدولة لتؤسس بذلك رأسمالية دولة، وهى التي أطلقوا عليها لا رأسمالية، ومقولة الرأسمالية الطفيلية وكأن هناك رأسمالية غير طفيلية
، ومقولة المجموعة الاشتراكية في السلطة والتي انعكست في الواقع على ترويض قوى اليسار في مواجهة الطبقات الحاكمة. أما المُصطلح الذي لم يتعرض له أحد والسائد حتى الآن فهو وصف الاقتصاد المصري بأنه اقتصاد ريعي. سنحاول هنا التعرض لمدى صحة الوصف، لكن قبل ذلك لابد أن نعرف ماهو الريع؟ وما هي أهم المدارس التي قامت على تفسيره، ثم نرى بعدها هل صحيح أن الاقتصاد المصري اقتصاد ريعي؟.

  نظرية الريع

وليام بيتي
 عادة ما يتعرض مصطلح الريع للخلط، فهو يعني عند العامة مضمونا يختلف عن المضمون الذي يقصده الاقتصاديون.  ففي اللغة الإنجليزية تُستخدم كلمة واحدة  Rent  للدلالة على كلا المفهومين، أما في اللغة العربية تُصبح المشكلة أقل حيث تستخدم كلمة إيجار للدلالة على المفهوم العام، وتُستخدم كلمة ريع للدلالة على المفهوم الاقتصادي. والمفهوم الأكثر انتشارا  للريع هو "تلك المدفوعات التي تُدفع لأصحاب "مُلاّك" عناصر الإنتاج ذات العرض غير المرن بدرجة عالية". وتُعَد الأرض المثال الأكثر وضوحا على ذلك حيث يصعب زيادة الكمية المعروضة منها مع زيادة أسعارها. ومن هنا  يُصبح من المُهم التفرقة بين كل من المفهوم العام للريع  وبين المفهوم الاقتصادي له.

 المفهوم العام للريع، يطلق عليه الريع التعاقدي Contract rent  يتضمن أجزاء من الفائدة والربح وأقساط الإهلاك، فعندما يدفع مستأجر المنزل الإيجار للمالك فإن قيمة هذا الإيجار تتكون من(ريع الأرض التي أقيم عليها المنزل + الفائدة على رأس المال المُستثمَر + قسط إهلاك المبنى) وهو ما يُعرف في العربية بالإيجار. أما المفهوم الخاص للريع، ويُطلق عليه الريع الاقتصادي Economic rent فهو ذلك المقدار الذي يُدفع نظير استخدام الأرض وحدها بدون الفائدة على رأس المال وغيرها من مكونات المفهوم العام للريع، وهو ما يُعرف في العربية باسم الريع فقط. وترجع أهمية التفرقة بين المفهومين إلى التداخل الذي يحدث بينهما عندما يقوم أحد المزارعين باستئجار مزرعة تتضمن منشآت كحظائر ماشية، ودار للسكن، واستثمارات رأسمالية في الأرض الزراعية ترفع من إنتاجيتها مثل الصرف المُغطى. ففي هذه الحالة تتضمن القيمة الإيجارين فائدة رأس المال الثابت بالإضافة إلى الريع الاقتصادي. والريع التعاقدي قد يكون أقل أو أكثر من الريع الاقتصادي، حيث يتوقف الأمر على القوة التفاوضية للطرفين "المساومة بين المالك والمستأجر.

المفهوم الأكثر دلالة لفهم الريع لمن لا يرغب في الخوض في تفاصيله هو عباره عن الدخل الذي تحصل عليه نتيجة متغيرات لا شأن لك بها ولم تبذل أي جهد يبرر حصولك عليها. وممكن توضيح ذلك بمثال بسيط، بفرض أنك تمتلك عقاراً يقع على طريق يمر به ترام وتقوم بتأجيره بمبلغ 500 جنيه شهرياً، ثم قامت الحكومة بإلغاء الترام وإقامة مترو أنفاق بدلاً منه، يترتب على المشروع ارتفاع إيجار نفس العقار إلى 700 جنيه، الفرق هنا 200 جنيه هو ما يُمكن اعتباره ريعاً. وفي هذه الحالة سيقوم باقي المُلاك برفع قيمة إيجار وحداتهم.

 التفسير الريكاردي للريع
ديفيد ريكاردو

يُعَد وليام بتي William Petty (1623 - 1687م) وهو أحد الرواد الإنجليز للمدرسة التقليدية أول من أشار إلى موضوع الريع باعتباره الجزء من الناتج الذي يحصل عليه مالك الأرض ضمن الربح إلا أنه لم يتمكن من التمييز بين الريع والربح لأنه لم يفّرق بين مالك الأرض ومن يقوم باستغلالها لذلك اعتبرهما معا من نصيب مالك الأرض ، وهو يُمثل في نظره الفائض المحقق في الإنتاج الزراعي. كما توصل بتي إلى فكرة الريع التفاضلي، وأرجعها إلى اختلاف خصوبة التربة، واختلاف موقع الأرض. أما  ديفيد ريكاردو David Ricardo (1772 - 1823م) المؤسس الرئيسي للمدرسة التقليدية مع آدم سميث  Adam Smit(1723 - 1790م)  فيُعَد أول من بحث في طبيعة الريع وحاول تفسيره، على الرغم من أن  سميث كان قد سبقه في الإشارة إليه عندما ذكر في كتابه الشهير ثروة الأمم أن "المُلاّك يريدون أن يحصدوا شيئا لم يزرعوه"، لكن سميث لم يقترب من الموضوع أكثر من ذلك ولم يحاول تحليله ومعرفته. وعرّف ريكاردو الريع بأنه " ذلك الجزء من ناتج الأرض، الذي يُدفع لمالكها نظير استخدام قواها الأصلية الطبيعية التي لا تَهلك". وهو يتفق  مع جيل الرواد في أن الثمن يتحدد من خلال نفقة الإنتاج حيث يُعَد أجر الكفاف نفقة إنتاج العمل، وتُعَد الفائدة نفقة إنتاج رأس المال. ولكن الأرض جزء من الطبيعة ومساحاتها تقريبا ثابتة مهما ارتفع أو انخفض ثمنها، وعلى ذلك لا يعد الريع نفقة إنتاج الأرض كما أنه ليس سببا في ثمنها، بل إنه يتكون نتيجة ارتفاع أثمان المحاصيل المُنتجَة بما يدفع المنتجين إلى زيادة الطلب على الأراضي الأقل خصوبة. إذن فالريع يتوقف على أثمان المحاصيل المُنتجّة ولا يتسبب في ارتفاع أثمانها، فإذا ارتفع الثمن زاد الريع، بينما إذا انخفض الثمن قل الريع، وإذا استمر الانخفاض ولم يستطع المُنتج الانسحاب من عملية الإنتاج فان الريع يختفي. وسوف نعود لهذه النقطة عند التعرض للريع كفائض.

 لتوضيح الفكرة نفترض أن هناك مجتمع جديد على قطعة أرض عذراء، فيكون من الطبيعي أن يتجه الأفراد الأوائل إلى زراعة قطعة الأرض الأكثر خصوبة، ونفترض أن وحدة مساحة تلك الأرض تُغِل تسعون كيلة من القمح. مع تزايد السكان وتوافد مهاجرين جُدد يزداد الطلب على القمح مما يدفع الأفراد الجُدد إلى زراعة قطعة الأرض الأقل خصوبة من القطعة الأولى، ونفترض أن وحدة المساحة في تلك الأرض تُغِل ثمانون كيلة من القمح باستخدام نفس وحدات عناصر الإنتاج المُستخدمة في القطعة الأولى. ونظرا لأن القمح المُنتج من القطعتين يباع في سوق القرية بثمن واحد وهو "جنيها واحدا للكيلة" لأنه سلعة متجانسة في الصفات، فان مُنتِج القطعة الأولى يحصل من وحدة المساحة على تسعون جنيها، بينما يحصل مُنتِج القطعة الثانية على ثمانون جنيها عِلما بأن تكاليف الإنتاج واحدة في القطعتين. في هذه الحالة إذا فكر السكان الجُدد في زراعة قطعة الأرض الأولى الأكثر خصوبة، ورغب السكان الأوائل في تأجير أراضيهم فإنهم سيطلبون ريعا لوحدة المساحة قدره عشرة جنيهات. وبالتالي يُصبح أمام السكان الجُدد أحد أمرين: إما زراعة قطعة الأرض الثانية، وهي الأقل خصوبة دون دفع إيجار، ويحصلون على ثمانون كيلة. أو زراعة قطعة الأرض الأولى الأكثر خصوبة مع دفع عشرة جنيهات لمالكها ويحصلون على تسعون كيلة من القمح. نستنتج من ذلك أن الضغط على مساحة الأرض تسبب في ظهور ريع لقطعة الأرض الأولى قدره عشرة جنيهات دون أن يصحب ذلك أي مجهود من مالك الأرض، وتصبح قطعة الأرض الثانية أرضا حدية لا ريعية. وباستمرار التزايد في الطلب على القمح يتجه السكان لقطعة أرض ثالثة تقل خصوبتها عن القطعتين السابقتين وتُغَل سبعون كيلة، مما يؤدي إلى زيادة ريع قطعة الأرض الأولى إلى عشرون جنيها، وظهور ريع لقطعة الأرض الثانية قدره عشرة جنيهات، وتصبح قطعة الأرض الثالثة أرضا حدية لا ريعية.

يمكن القول أن ريكاردو استند في تحليله للريع إلى فكرتين: الأولى أن الريع لم يظهر نتيجة كرم الطبيعة بل نتيجة لبخلها، والثانية أن الريع عائد لاستخدام القوى الطبيعية للأرض التي لا تهلك. جاءت الفكرة الأولى كرد من ريكاردو على مدرسة الطبيعيين "الفيزوقراط" الفرنسية والتي أعطت أهمية كبرى للطبيعة وكرمها واعتبرتها مصدر الريع، كما أن ريكاردو عاش في فترة شهدت ارتفاعا كبيرا في قيمة الريع. ويخلص ريكاردو من ذلك إلى أن الأرض وإن كانت نافعة، إلا أنها نادرة، وهذا دليل على بُخل الطبيعة. وأن الريع يتزايد بسبب ندرة الأراضي وارتفاع أثمان حاصلاتها، وليس بسبب كرم الطبيعة. أما الفكرة الثانية والخاصة بقوله أن الريع يُنسب لقوى الأرض الأصلية التي لا تهلك فإنه يصعب الفصل بين عائد القوى الأصلية للأرض وعائد القوى التي يضيفها الإنسان. وبنظرة إلى حال وادي النيل عند فجر التاريخ وحاله الآن نتبين بسهولة مدى الجهد الإنساني الخارق الذي بذله الإنسان المصري بغرض تطوير الأراضي الزراعية، وبالتالي لا يمكن القول أن هذا القسم من الريع يعود لقوى الأرض الأصلية عند فجر التاريخ، وأن ذاك القسم من الريع إنما هو في حقيقة الأمر فائدة رأس المال المُنفق منذ ذلك التاريخ إلى الآن. ومن هنا يُصبح الأمر الأكثر منطقية أن يُنسب الريع إلى الأرض لا إلى قوى الطبيعة التي لا تهلك.

  التفسير المالتسي للريع
توماس روبرت مالتس
قدم توماس روبرت مالتس Ropert Malthus  Thomas (1777 - 1834م) تفسيرا لظاهرة الريع يختلف عن تفسير ريكاردو الذي كان صديقا له حيث اعتبر مالتس الريع أنه "الفائض المُتبقي"Residual surplus من جملة قيمة الناتج الكلي بعد خصم قيمة أجور العمال وفائدة رأس المال المُستثمر. وهو بالطبع يختلف عن تفسير ديفيد ريكاردو السبق شرحه. يُمكن هنا التأكيد على أن الريع ليس جزءا من نفقات الانتاج التي تؤثر على الثمن، بل هو دخل مميز، يمثل الفرق بين كل النفقات التي ينفقها أقل المُنتجين حظا، وبين كل النفقات التي ينفقها أكثر المنتجين حظا. فاذا كان الثمن يتقرر عن طريق نفقات الناتج الحدي، فان الريع ليس من العوامل التي تؤثر على الثمن بل هو نتيجة للتغير في الثمن.

 التفسير الماركسي للريع
 
كارل ماركس
 وضع  كارل ماركس  Karl Marx ( 1818 - 1883م) المفكر الاقتصادي والفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني الأساس النظري للتفسير الماركسي للريع إنطلاقا من وجود زراعة رأسمالية تقوم على استخدام العمل المأجور، وافتراض أن مالك الأرض ومن يقوم باستغلالها شخصان مستقلان. وهذا يعني أن مالك الأرض لا يقوم باستغلالها بنفسه بل يقوم بتأجيرها لشخص آخر "رأسمالي زراعي" يقوم بدوره بتشغيل عمال زراعيين يخلقون بعملهم فائض القيمة. هذا الفائض يستولى عليه أولا مستأجر الأرض، ثم يقوم بتقسيمه إلى قسمين: قسم يحتفظ به وهو ربحه ويعادل متوسط ربح رأسماله الذي قام بتوظيفه عند استغلال الأرض؛ والقسم الثاني وهو الفائض عن متوسط الربح ويعود إلى مالك الأرض وهو ما يُعرف بالريع العقاري. ويُصبح السؤال لماذا يحصل مالك الأرض على قسم من فاض القيمة التي يخلقها العمال الذين قام بتشغيلهم مستأجر الأرض؟ والإجابة على هذا السؤال تبدو بسيطة، لأنه بدون إذن المالك لايحق لأحد أن يستثمر الأرض، وعلى ذلك يُقال أن الريع العقاري هو الشكل الاقتصادي لاستثمار الملكية الخاصة للأرض. وإذا كان الرأسمالي الزراعي هو مالك الأرض فإنه يحصل على كامل فائض القيمة ولا يقتسمه مع أحد.

في ظل النظام الاقتصادي الإقطاعي كان الريع العقاري مُتمثلاً في كل من: عمل السخرة، والريع العيني، والريع النقدي يُعبر عن علاقات الانتاج الإقطاعية بين طبقتين رئيسيتين هما: مُلاّك الأراضي، والفلاحين الأقنان. أما في النظام الرأسمالي فإن الريع العقاري يُعبر عن العلاقات الانتاجية بين ثلاث طبقات هم: مُلاّك الأراضي، الرأسماليين الزراعيين "مستأجري الأراضي"، والعمال الزراعيين الأجراء. في النظام الاقطاعي يستولي مالك الأرض على فائض القيمة بالكامل، أما في النظام الرأسمالي فإن فائض القيمة يتوزع بين مستأجري الأراضي، والمُلاّك العقاريين. يُفرق التفسير الماركسي بين نوعين من الريع: الأول وينتج من احتكار الأرض بوصفها موضوعاً للاستثمار، ويُطلق عليه الريع التفاضلي؛ والثاني ينتج من احتكار الملكية الخاصة للأرض، ويُطلق عليه الريع المُطلق.

الريع التفاضلي: القاعدة الأساسية لفهم الريع التفاضلي تقوم على أن ثمن المُنتجات الصناعية يتحدد على أساس متوسط تكاليف الانتاج، أما ثمن المُنتجات الزراعية فيتحدد على أساس تكاليف الانتاج في أردأ الأراضي. وبما أن مساحة الأراضي محدودة ولا يُمكن توسيعها إلى ما لا نهاية، فإن مستأجري الأراضي الخصبة والأراضي المتوسطة يجدون أنفسهم في وضع أكثر ملاءمة من وضع مستأجري الأراضي الرديئة. كما أن هؤلاء الحائزين لجميع قطع الأراضي لايحصلون على عائد من الأراضي، لأن الأرض وحدها لا تُنتج عائدا، إنما العمل الإنساني المبذول هو الذي يُنتج ذلك العائد. وهناك ثلاثة أسباب تُتيح الحصول على الريع التفاضلي هى:(1) الفوارق من حيث درجة خصوبة قطع الأراضي.(2) الفوارق من حيث موقع قطع الأراضي بالنسبة للسوق.(3) الفوارق من حيث عائد رأس المال "الفائدة" الموظف في هذه الأراضي. ويُطلق على الريع المُتحصل عليه بسبب التباين في الخصوبة أو التباين في الموقع إسم الريع التفاضلي من النوع الأول، بينما يُطلق على الريع المُتحصل عليه بسبب التباين في حجم الإستثمارات إسم الريع التفاضلي من النوع الثاني.

يمكن توضيح ذلك كمياً بإفتراض ثلاثة قطع من الأراضي متساوية المساحة:
-القطعة الأولى خصبة، والقطعة الثانية متوسطة، والقطعة الثالثة رديئة.
-وأن نفقات الانتاج فى القطع الثلاث واحدة، وتبلغ مائة جنيه لكل قطعة.
-وأن فائدة رأس المال المُستثمر تبلغ 20%،
-وعلى ذلك تبلغ جملة التكاليف مائة وعشرون جنيهاً (100+20).
-بلغ انتاج المحصول من القطعة الأولى الخصبة ستة أرادب، وبلغ انتاج المحصول من القطعة الثانية متوسطة الخصوبة خمسة أرادب، وبلغ انتاج المحصول من القطعة الثالثة الرديئة أربعة أرادب.
-ونظراً لأن سعر بيع المحصول يتحدد بناء على قطعة الأرض الأسوء يكون سعر الاردب ثلاثون جنيها (120÷4 إردب)، حيث جملة العائد تساوي جملة التكاليف.
-في نفس الوقت تبلغ جملة العائد من قطعة الأرض الأولى 180 جنيها (6 إردب × 30 جنيه)، وجملة العائد من قطعة الأرض الثانية 150 جنيها (5 إردب × 30 جنيه).
-وبذلك يكون الريع التفاضلي لقطعة الأرض الأولى ستون جنيها (180 - 120)، ويكون الريع التفاضلي لقطعة الأرض الثانية ثلاثون جنيها (150 - 120). ولا يتحقق ريع تفاضلي من القطعة الثالثة (120-120).
-وبنفس الطريقة إذا إنخفض سعر بيع الإردب إلى 24 جنيها يختفي الريع من قطعة الأرض الثانية، ويبلغ ريع قطعة الأرض الأولى أربعة وعشرون جنيها (144 - 120)، بينما تحقق قطعة الأرض الثالثة خسارة وقد تخرج من الانتاج.

الريع المطلق: بالاضافة إلى الريع التفاضلي الذي يعود إلى الحائز الذي يقوم بالانتاج الفعلي، فان مالك الأرض يحصل على نوع آخر من الريع يُطلق عليه الريع المُطلق، ويمكن حسابه على النحو التالي:
- من المعروف أن التركيب العضوي لرأس المال في الصناعة يميل إلى رأس المال الثابت، يميل التركيب العضوي لرأس المال في الزراعة إلى رأس المال المُتغير، فإذا افترضنا في هذا المثال أن التركيب العضوي لرأس المال في الصناعة هو (4: 1) كنسبة، (80 ثابت : 20 متغير) كقيمة نقدية، هنا ستكون قيمة الناتج النهائي 120 = (80 ثابت + 20 متغير + 20 فائض قيمة)، حيث رأس المال المتغير هنا (أجور العمال) يُنتج فائض قيمة مساويا له.
- التركيب العضوي لرأس المال في الزراعة ( 1.5: 1) كنسبة، (60 ثابت: 40 متغير) كقيمة نقدية، تكون قيمة الناتج النهائي 140 = (60 ثابت + 40 متغير + 40 فائض قيمة)، حيث رأس المال المتغير هنا (أجور العمال) يُنتج فائض قيمة مساويا له.
- فإذا كان معدل الربح في الصناعة يبلغ 20% فلن يقبل مستأجر الأرض أن يحصل على أقل من تلك النسبة، وهى تُعادل 120 جنيها، ولكن الناتج سيباع بمبلغ 140 جنيها، وعلى ذلك يكون الفرق 20= (140 - 120)  هو ما يُطلق عليه الريع المُطلق أو الريع العقاري الذي يحصل عليه مالك الأرض.

التفسير الحدي للريع
 
ألفريد مارشال
 يُقصد بالتفسير الحدي للريع، مدخل المدرسة الحدية في تحليل ظاهرة الريع. ويقترب هذا التفسير كثيرا من تعريف مالتس للريع بكونه، الفائض المُتبقي من جملة قيمة الناتج الكلي بعد خصم قيمة أجور العمال وفائدة رأس المال المُستثمر. وقد استخدم الاقتصاديين الحديين تقريبا نفس المدخل المالتسي في التفسير لكن بالشكل الذي يتوافق مع النظرية الحدية، حيث يستمر المُنتج الزراعي في الانتاج حتى تتعادل التكاليف الحدية مع العائد الحدي. يعتمد المدخل الريكاردي في تحديد الريع على الثمن، بينما يعتمد المدخل الحدي على الفائض في تحديد ذلك الريع. كما اعتمد المدخل الحدي على تفسير مالتس باعتبار الريع فائض يتم الحصول عليه بعد دفع النفقات الأخرى، وهو مدخل مَعيب حيث لا يمكن تقدير عائد العناصر الأخرى بشكل منفصل، وهو ما يعني منطقيا استحالة تقدير حجم الريع. وعلى ذلك يُمكن القول بشكل عام أن التفسير الماركسي للريع يُعَد امتداد للتفسير الريكاردي. وأن التفسير الحدي للريع يُعد امتداد للتفسير المالتسي، أي ابتعاد عن تفسير المدرسة الكلاسيكية لتلك الظاهرة.

التحديد النظري للريع: إذا كانت هناك عدة قطع من الأرض مختلفة الخصوبة فأى قطعة منها يُمكن اتخاذها كأساس للمقارنة ومقياس للريع ؟ يُمكن الإجابة على ذلك بالقول أنها الأرض الحدية، أى الأرض التى تُغِل محصولا تتساوى قيمته مع ما أُنفق عليه من عمل ورأسمال دون أن يتبقى فائض. وسواء زُرع المحصول في الأرض الأقل خصوبة أو في غيرها فانه يُباع بالثمن الذي يكون ضروريا لتغطية نفقات الناتج الحدي. وعلى ذلك فالأرض التي يُباع محصولها بنفس قيمة النفقات التي أنفقت عليها تُعد هى الأرض الحدية. ونظرا لأن المُنتج يميل إلى استثمار وحدات من العمل ورأس المال إلى الحد الذي يُغطي نفقاته فقط، أى أنه يميل إلى أن يُنتج إلى الحد الذي تتعادل فيه النفقات الحدية مع الثمن، فإنه يُمكن القول:(أن الانتاجية الاضافية الناتجة من الفرق بين غِلة الأرض الأكثر خصوبة، وغِلة الأرض الحدية تُحدد مقدار الريع. كما أن الفرق بين غِلة الوحدات الحدية من العمل ورأس المال، وغِلة الوحدات السابقة لها التي تُستخدم في استغلال قطعة محددة من الأرض تُحدد أيضا مقدار الريع). فإذا زاد ثمن الناتج يُصبح من المُفيد للمُنتج أن يزرع الأرض التي ما كان يفكر أحد في زراعتها من قبل، كما يكون من المُفيد له استخدام وحدات اضافية من العمل ورأس المال ما كان يفكر في استخدامها من قبل لأن هذه الوحدات كانت تُغِل محاصيل لا تُغطي مقدار النفقات التي أُنفقت عليها. ومن ثم نرى أن ارتفاع أثمان المحاصيل يؤدي إلى تقدم حد الزراعة ويُمَكّن من استغلال أراضي أقل جودة وأضعف خصوبة، والعكس صحيح تماما.
شبه الريع
شبه الريع  Quasi-Rent  اصطلاح أطلقه الفريد مارشال  Alfred Marshall (1842 - 1924م)، على ما يحصل عليه بعض مُلاّك الموارد الرأسمالية مثل الآلات نتيجة زيادة الطلب على المنتجات التي تُنتجها هذه الآلات. وهو شأنه شأن الريع، لأنه يتوقف على مستوى الأثمان السائد في السوق، فهو نتيجة للتغير في ثمن السلعة وليس سبب لها. فاذا ازداد الطلب على منتجات إحدى الآلات على سبيل المثال سيرتفع ثمن هذه المنتجات في السوق، وبالتالي سيزداد الطلب على شراء هذه الآلات، ومن ثم يرتفع ثمنها هى أيضا، وبالتالي يحصل أصحاب الآلات الأولى على دخل إضافي دون أن يتسببوا في ذلك. هذا الدخل الذي يتم الحصول عليه من الآلات وغيرها من الأدوات هو الذي أطلق عليه مارشال اسم "شبه الريع". وذلك تمييزا له عن ريع الأرض ذات العرض الثابت تقريبا أما عرض الآلات فهو ثابت فقط على المدى القصير، أما على المدى الطويل فيمكن تغيير الآلات وزيادة عرضها. وعلى ذلك يُمكن تعريف شبه الريع بأنه الدخل المُتحصل في الفترة القصيرة من آلة مطروحا منها نفقات المحافظة عليها وإبقائها صالحة للعمل، إلا أنه يعترض ذلك التعريف أن تلك النفقات هى نفقات متغيرة، بينما شبه الريع ليس جزءا من النفقات المتغيرة بل هو نوع من أنواع الفوائض المتبقية بعد النفقات. ومن هنا أضاف مارشال إلى تعريف الريع باقي الموارد الطبيعية فقال أنه ذلك الدخل الذي يحصل عليه مُلاّك الأرض وغيرها من موارد الطبيعة.
ريع المقدرة
ذكرنا من قبل صعوبة تحديد الريع المحصل من الأرض فقط وفقا لخصوبتها، نظرا لاندماج الاتفاقات الاستثمارية مع الأرض. نفس الشيء أيضا يحدث بالنسبة لريع الموقع، حيث لا يمكن تحديد قدر مُعين من العائد بأنه هو الخاص بريع الموقع. فالعمل ورأس المال يندمجان على بُقع محددة من الأرض تُعطي مُلاّكها فرصة الاحتفاظ بفائض عن الدخول العادية. على أن ذلك الفائض يتوقف على مدى مهارة المالك في استخدام الموقع. فقد يقوم المالك ببناء حديث يوفر أماكن جيدة لرجال الأعمال والأطباء وغيرهم، فإذا نجح المشروع فانه سيحصل على دخل(إضافي) كبير  يدفع بالآخرين إلى دخول المجال بما يُعرف بأثر المُحاكاة، فينخفض هذا الدخل الإضافي(الريع) الذي حصل عليه هؤلاء المغامرون الأوائل. وهذا يعني أن المالك إذا كان قد حصل على ريع الأرض لأن عرضها غير مرن، فإن المنظم قد استطاع أيضا عن طريق مهارته وقدرته أن يحصل منها على ما يُعرف بريع المقدرة  Rent of ability. وعلى ذلك يُصبح في الإمكان الحصول على ريع المقدرة من جميع عناصر الإنتاج التي يكون عرضها غير مرن. ومن أهم فروق ريع الأرض الزراعية عن ريع أراضي المدن أن استثمار رأس المال في تلك الأخيرة يصعُب رده أو استعادته بدرجة أكبر من الاستثمار في الأراضي الزراعية. فذا كانت هناك بعض التحسينات على الأراضي الزراعية تُعَد تحسينات دائمة كعمليات الري والصرف، إلا أن آثار هذه التحسينات تنتهي بعد فترة معينة ويُصبح أمام المُنتج أحد خيارين: أن يعيد الاستثمار في تلك التحسينات، أو أن يستغني عنها ويوجه استثماراته وجهة أخرى. بينما تحسينات أراضي المدن تدوم مدة طويلة، ويصبح من الصعب تغيير حالة رأس المال المُنفق، أي يُصبح من الصعب استرداده.

 والآن هل صحيح أن الاقتصاد المصري، اقتصاد ريعي؟
محمود عبد الفضيل - أول من أطلق صفة شبه الريع على الأقتصاد المصري             - محمد حامد دويدار - أول من أطلق صفة الريع على الإقتصاد المصري

محمد مدحت مصطفى - أول من أعترض على الوصفين
 ننتقل الآن إلى محاولة الإجابة على السؤال. إنطلق القائلين بريعية الاقتصاد المصري أو شبه ريعيته من أن موارد الاقتصاد المصري الرئيسية ييتشكل من أربعة بنود هي: عائدات قناة السويس، عائدات السياحة، عائدات البترول، تحويلات العاملين في الخارج.
عائدات قناة السويس: السؤال هنا هل هذه العائدات تُمثل ريع موقع؟ ريع الموقع في هذه الحالة يُصبح صحيحاً إذا كانت قناة السويس ممراً طبيعياً ولا تُنفق الدولة على إدارته أو صيانته شيئاً. فما بالنا إذا كان إنشاؤه تم بأيدينا ونقوم بصينته على مدار العام وتوسعته وتعميقه ليسمح بمرور السفن العملاقة، ولا نُجبر أحد على المرور منه، أليست هذه استثمارات من أموال المجتمع، وتستحق عائداً، أم أننا حفرناها لفعل الخير وتديرها جمعية خيرية وليست شركة مُساهمة مصرية. هذا العائد ليس ريعاً ولا شبه ريع.
عائدات السياحة: وهم يُدخلونها أيضا ضمن ريع الموقع، فمن يأتي للسياحة ينام في الصحراء ويشرب مباشرة من ماء النيل ويلتقط الثمار من على الأشجار. لا أفهم كيف لم يُدرك هؤلاء حجم الإنفاق الذي يتم من أجل استقبال هؤلاء السائحين سواء أتوا بغرض السياحة الترفيهية أو الدينية أو الثقافية أو غيرها، ألا تستوعب هذه الأنشطة أعمال مئات الألوف من أبناء المجتمع، ألا يتم إنفاق أموالا طائلة بغرض جذب هؤلاء، ألا تستحق هذه الاستثمارات عائدا. فكيف يكون هذا العائد ريعاً؟
عائدات البترول: السؤال المطروح هنا هل هذا البترول يخرج متدفقا من باطن الأرض على هيئة عيون؟ أم أن الأمر يتطلب بحثاً وتنقيباً هائلاً يحتمل من الفشل كما يحتمل من النجاح، ثم تأتي عمليات الاستخراج والنقل وغيرها، ألا يتطلب الأمر هنا إنفاق ملايين من الجنيهات. وإذا كان الرد بأن هذا البترول يتواجد في منطقة دون أخرى ومن ثم يمكن اعتباره ريعاً. كيف بالله عليكم وما فائدته إذا ظل في باطن الأرض. إنه ببساطة من الموارد الناضبة تماما مثل المياه الجوفيىة غير المتجددة لها حساباتها الخاصة. لكنه في النهاية عمل إنساني ولا علاقة له بالريع.
 تحويلات العاملين في الخارج: هذا يعني أنك عندما تعمل في الخارج وتقوم بتحويل أجرك إلى الوطن يُعتبر ريعاً، وعندما تعمل ولو بنفس الأجر داخل الوطن لا يُعتبر ريعاً. تطبيقاً لأى تفسير مما عرضناه سابقاً يُمكن قبول هذا القول، ندعوا الجانب ليأتوا بأموالهم فنطلق عليه استثمار، وعندما يعود المصريون بأموالهم نُطلق عليها ريعاً. نعم هذه التحويلات لها آثار جانبية ولكنها ليست ريعاً ولا شبه ريع بأي حال من الأحوال.


نصل من هذا إلى أن القول بريعية الاقتصاد المصري أو شبه ريعيته هو قول جانبه الصواب. لكن يُمكن القول أن الاقتصاد المصري يعتمد في إيراداته على مصادر غير مستقرة ومهددة بالتغير بل بالاختفاء، وبذلك يُصبح المُجتمع بأسره مهدداً. ومن هنا كانت الدعوة المستمرة للإستثمار الوطني إعتماداً على مواردنا المحلية في أنشطة نتحكم نحن فيها وما أكثرها. لكن القضية أنه لا توجد رؤية واقعية للمستقبل ولا توجد إرادة سياسية لتحقيق ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق