الاثنين، 12 يناير 2015

الإسكندرية والباشا



الإسكندرية والباشا from محمد مدحت مصطفى


ثلاثون شهرا مرت بين وصول نابليون بونابرت إلى منطقة العجمي غرب الإسكندرية في 2 يوليو 1798م وبين وصول محمد علي إلى ميناء الإسكندرية في الأول من ديسمبر 1800م. شهدت هذه الشهور الثلاثون من الأحداث على المستوى الدولي ما تسبب –مع عوامل أخرى- في وصول محمد علي إلى مصر ليبدأ فصل جديد في تاريخ هذه الأمة يُسجل فيه خطوات بناء الدولة الحديثة.
كانت الإسكندرية أول مدينة تستقبله شاباً يافعاً، كما كانت المدينة التي يُفارق فيها الحياة لتودعه كهلاً في 2 أغسطس 1849م ويُسجى جثمانه في بهو القصر ويقف أمامه إبنه سعيد باشا يتلقى العزاء من قناصل الدول، ثم يُنقل الجثمان من قصر رأس التين إلى مركب بخاري يمخر عباب ترعة المحمودية التي كان قد أمر بحفرها وليوضع جثمانه في مسجد القلعة حيث رغب أن يُدفن هناك. ويتم الدفن في مدفنه الرخامي المرمري بهدوء وسكينة يوم 4 أغسطس بلا مواكب أو مراسم بناء على تعليمات الخديوي عباس الأول.

ومن مفارقات الباشا مع الإسكندرية أنه انتظر 26 شهراً منذ صدور فرمان تعيينه والياً على مصر في 9 يوليو 1805م حتى تمكن من دخول المدينة حاكماً لأول مرة يوم 20 سبتمبر 1807م. بعد هزيمة الإنجليز في حملة فريزر ومغادرتهم مصر في 13 سبتمبر 1807م، وقام الباشا بتعيين نائبه طبوز أوغلي حاكماً لمدينة الإسكندرية في 17 سبتمبر ليسبقه ويُشرف على إعداد أعظم استقبال للباشا في مصر، وتزدان شوارع الإسكندرية بالأعلام وتُقرع الطبول وتُطلق المدافع وكأنه اعتذار وتعويض عن الشهور الطويلة التي انتظرها حتى يدخل المدينة. ومن المواقف الطريفة للباشا في الإسكندرية أنه شهد بها أول عملية تصوير فوتوغرافي عندما حضر إلى الإسكندرية المصوران الفرنسيان مكسيم دوكان وجوستاف فلوبير وقدما للباشا في قصر رأس التين يوم 4 نوفمبر 1839م عرضا لبعض صور للآثار المصرية كان قد التقطها هوراس فرنييه عام 1825م قبل مضي شهرين فقط على ظهور الاختراع الجديد. وبعد أن أعجِب بها سمح لهما بتصوير الحريم في القصر بوجوده، فما لبس المشهد أن انعكس على مرآة الآلة الزجاجية فتطلع إليه الحاضرون في دهشة وذهول، وبعد دقيقتين قدم فرنييه الصورة المسجلة فظهرت إمارات الدهشة والاهتمام على الباشا الذي صاح مشدوهاً وهو يستدير نحو الحاضرين "لعمري إن هذا إلا رجس من عمل الشيطان". كما شهدت الإسكندرية آخر كلمة عامة للباشا وذلك في مأدبة غداء أقامها بقصر رأس التين على شرف وجهاء المدينة عام 1847م قبل وفاته بنحو عامين وهذه ترجمة لكلمته التي أترك لحضراتكم التعليق عليها. "أبنائي لقد رأيت منكم من المظاهر ما يدل على تدفق الحمية والحماس، كما لمست منكم استعدادكم لقبول التضحية. ولا شك أن كلا منكم أدرك بقدر ما سمح به ذكاؤه المزايا التي انفردت بها مصر بلادنا، وأنا موقن بأن من لم يستطع إدراكها حتى الآن سيدركها يوما ما ممن سبقه، لذلك أراني في حاجة إلى بيانها. لكن الذي يحزنني هو أن نشاطكم لا يصل إلى المستوى الذي يتطلبه الوطن، مما كان موضع ألمي. وأنتم لاشك تعلمون أن أبناء الأمم التي تمتاز بالقوة والمدنية لم يصلوا إلى مكانتهم الحالية عفوا، بل اجتازوا فترات انحطاط في بادئ الأمر. ثم ظهر بينهم أفراد نابهون جعلوا همهم بث حب الوطن بين إخوانهم، فتكاتف الجميع على رفع شأنه. فتقدمت بلادهم بينما لا زلنا غافلين عما يتطلبه حب الوطن من إقدام وإخلاص واهتمام لهذا تأخرنا عن غيرنا من الأمم. عليكم برعاية حقوق المصالح العامة التي توكل إليكم، فلا تضيعوا مصلحة عامة من أجل مرضاة كبير تخشى سلطاته أو صغير ترجى مودته. لقد ناهزت الثمانين ولم يعد في خاطري شئ أصبو إليه، وإن ما بذلته من جهد، وما قاسيته من عناء إنما كان لأوفر لكم السعادة، ولأرفع من شأنكم، أما وقد ربيتكم جميعا منذ الصغر، وعلمتكم القراءة والكتابة، وأخذت بيدكم إلى ما أنتم فيه من مراتب، ووضعتكم في منزلة أولادي حتى صرت لكم أبا بحق فقد وجب عليكم أن ترحبوا بتلك الأبوة. ولهذا صار منتهى أملي أن تضاعفوا جهودكم مقابل كل ذلك، لا من أجل وطنكم فحسب بل رعاية لمستقبلكم، ولكى تسير البلاد قدما نحو الرقى المنشود. فيجب أن تمحو المحاباة من دائرة أعمالكم فهي وإن جازت في الأمور الشخصية أو في الحياة العائلية، فإنها من أكبر المعاول التي تفسد النظام الحكومي وتحط من شأنه، وإنه ليسعدني أن أجد بينكم من إذا أصدرت إليه أمرا مخالفا للمصلحة العامة نبهني إليه، فإذا نهجتم هذا النهج مع مرؤوسكم فإنكم ستجنون ثمار ذلك. وليس على أحدكم أن يخشى بأس شخص آخر ينقم عليه إهماله للمعاني الخاصة ما دمت حيا، وسيكون لكم من أبنائي خير عضد وأكبر معين. وإني على يقين من أنكم إذا اتبعتم نهجي فستقر عيني ويهدأ بالي، مما يساعدني على استرداد صحتي وعافيتي، فإذا من الله علي بأن أطال أجلي فسيكون ذلك خير لمصر، وسيجني شعبها ثمار غرسي، وليعلم أبناء مصر جميعا أن أولادي الذين لم أدخر جهدا في سبيل تنشئتهم على أكمل وجه ممكن، والذين لمسوا بأنفسهم نتائج ما أنشأت وما قدمت لمصر سيحذون حذوي، وسيكون لهم من سيرتي أكبر حافز على النهوض بمصر نحو الكمال، وسيكونون مثلي عونا للمخلص وعضدا للمجد. ولست أبغي مما ذكرت سوى تنبيه ذوي البصائر، وإيقاذ الغافلين فإن لم تقلعوا عن الخصال القديمة كالمحباة والمداراة، وتجعلوا الصراحة ديدنكم وتغلبوا المصلحة العامة فسيكون ذلك مبعث آلامي. ولما كنت أعمل على تقدم هذا الوطن العزيز فقد جعلت النهوض به أساس سياساتي، فسأضطر بكل أسف إلى عقاب كل من لا يتبع خطتي، وإني أرجوا أن تعي آذانكم تلك النصيحة الخالصة حتى أرى كل منكم يسير وفقها لينال مني خير الجزاء، وبذلك تقر عيني، ويطمئن فؤادي، وتتعلق آمالي فيكم وبكم."

يقول الباحث الإيطالي الصقلي المولود في الإسكندرية 1913م أومبرتو ريتسيتانو في كتابه تاريخ العرب المنشور في باليرمو 1971م "يُعتبر محمد علي الباعث الحقيقي لمصر، وصانع مصر الحديثة".
ويقول المؤرخ الروسي فلاديمير لوتسكي "إن إصلاحات محمد علي كان لها طابع تقدمي على الرغم من أنها كانت تمثل عبئا على الشعب"، ووصفه كارل ماركس في  عدد 25 يوليو 1853م من New yor; daily tubrne "إنه الرجل الوحيد الذي يستطيع استبدال رأس حقيقي بعمامة توضع على الرأس"
ويقول بيتر مانسفيلد في كتابه تاريخ الشرق الأوسط، "كان حاد الذكاء مستوعبا للمستجدات جريئا وطموحا وقادرا على القيام بفظائع رهيبة، ولم يكن يعتبر نفسه مصريا ولا عربيا ولم يتحدث العربية أبدا"
ويقول المؤرخ السوري نعمان القساتيلي في كتابه الروضة الغناء في دمشق الفيحاء المنشور طبعته الأولى في 1879م وطبعته الثانية في بيروت 1982م، "في 1831م بدأت أحداث جسام في سوريا عند نقل البلاد للحكم المصري ودخول أضواء الحضارة".
أما الكاتب الفرنسي جيلبرت سينويه المولود بالقاهرة 1947م فيصف محمد علي في كتابه الفرعون الأخير (1770- 1849م) الذي نشرت دار الجمل في بيروت ترجمة له عام 2012م بأنه "يملك هيبة الأسد وحيلة الثعلب".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق